بقلم: م. م. هدى ياسر سعدون
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
قد أشار الإمام (عليه السلام) الى أن هنالك ضوابط تحدّ من فساد الوالي تجاه رعيته، وبهذا فإن الإمام (عليه السلام) يضع الأطر الأساسية لقيام المجتمعات:
أولًا: عدم سفك الدماء خارج حدود الله.
«إِيَّاكَ وَالدَّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَة، وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَة، وَلاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة، وَانْقِطَاعِ مُدَّة، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِىءٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ، فِيَما تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامةِ، فَلاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَم حَرَام، فَإِنَّ ذلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ، بَلْ يُزيِلُهُ وَيَنْقُلُهُ، وَلاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللهِ وَلاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمدِ، لاَِنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ، وَإِنِ ابْتُلِيتَ بخطء وَأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ [أَوْ سَيْفُكَ] أَوْ يَدُكَ بِعُقُوبَة، فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً، فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُول حَقَّهُمْ»[1].
فالإمام (عليه السلام) يحذر الوالي من سفك الدماء بغير وجه ثم يقول ما من شيء أصعب منه ومن تبعاته، وإن فعل ذلك في سبيل تقوية سلطانه فإن الأمور ستؤول الى ضعف سلطانه لا بل وإزالته عنه «وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) يدل على أن المؤدب من الولاة إذا تلف تحت يده إنسان في التأديب فعليه الدية»[2].
ثانيًا: يتذكر من كان قبله من السُنة.
«وَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ: مِنْ حُكُومَة عَادِلَة، أَوْ سُنَّة فَاضِلَة، أَوْ أَثَر عَنْ نَبِيِّنَا (صلى الله عليه وآله) أَوْ فَرِيضَة فِي كِتَابِ اللهِ، فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا، وَتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عهْدِي هذَا، وَاسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ، لِكَيْلاَ تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَى هَوَاهَا»[3].
نلاحظ من كلام الإمام (عليه السلام) نقطتين مهمتين:
الأولى: على من يخلف أمرًا أن يجعل من كان قبله قدوة له وهو حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي كما وصفها الإمام (عليه السلام):
«حُكُومَة عَادِلَة، أَوْ سُنَّة فَاضِلَة».
الثانية: أن الإمام (عليه السلام) بين لهم بأنه (عليه السلام) هو امتداد لتلك الحكومة وأنه وضع واجباته تجاه عماله بصورة واضحة المعالم وانتهج بها نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ثالثًا: ترك العجب وحب المديح والإطراء
«وَإِيَّاكَ وَالاِْعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الاِْطْرَاءِ، فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ، لِـيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْـمُحْسِنِينَ»[4].
رابعًا: ترك المنّ على الرعية وإلزام الوالي بوعوده لرعيته
«وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيَما كَانَ مِنْ فِعْلِكَ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ، فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الاِْحْسَانَ، وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ، وَالخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَاللهِ وَالنَّاسِ»[5].
قال تعالى:
﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[6] وهنا يوضع الإمام (عليه السلام) ما يجب أن يقوم به الخليفة أو الوالي تجاه رعيته وذلك بأن لا يتفاخر بما يقدمه لهم وأن يحسن لهم أمورهم وأن لا يخلف الوعد الذي يعدهم به كقول الإمام (عليه السلام):
«المسؤول حر حتى يعد»[7].
خامسًا: لا يتعجل بالأمور ولا يتهاون
«وإيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالاْمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا، أَوِ التَّسَاقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا، أَوِ الَّلجَاجَةَ فِيهَا إِذا تَنَكَّرَتْ، أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إذَا اسْتَوْضَحَتْ، فَضَعْ كُلَّ أَمْر مَوْضِعَهُ، وَأَوْقِعْ كُلَّ عَمَل مَوْقِعَهُ.»[8].
سادسًا: لا يستأثر
«وَإيَّاكَ وَالاْسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ، وَعَمَّا قَلَيل تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الاُْمُورِ، وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ» [9].
ويبدو لنا جليًا بأن الإنسان عندما يتمكن من شيء أو سلطة قوية فإنه يستأثر، فالإمام (عليه السلام) يذكر مالكًا الأشتر بذلك، كما أن بعض الحكام والسلاطين يميزون أصحابهم المقربين ويغدقون عليهم الخيرات استغلالًا لمناصبهم، فالإمام (عليه السلام) من جهة أخرى يؤكد بأن ذلك لا يدوم كونه لم يبقَ مخفيًا عن الرعية، ثم إنه عما قليل تزول أغطية هذه الأمور ويأخذ المظلوم حقه، وما أنت إلا كأحد هذه الرعية، وتاريخنا مليء بهذه الأحداث بل ما أكثرها! كما جاء قول الإمام (عليه السلام): من ملك استأثر[10]. والمعنى أن الأغلب في كل ملك يستأثر على الرعية بالمال والعز والجاه ونحوه قولهم: من غلب سلب[11].
فضلًا عن ذلك أن الامام يوُصي الوالي إذ يقول (عليه السلام):
«وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكِ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ، وَاتَّهِمْ فِي ذلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ»[12].
وبذلك يقول الأستاذ جورج جرداق: «وصاحب هذا التوجه في تاريخ العرب، لابد له أن يكون محبًا، للسلم، كارهًا للقتل إلا إذا كان في القتال ضرورة اجتماعية...»[13].
«فَلاَ تَغْدِرَنَّ[14] بِذِمَّتِكَ، وَلاَ تَخِيسَنَّ بَعَهْدِكَ، وَلاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ، فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِىءُ عَلَى اللهِ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ، وَحَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ،يَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ، فَلاَ إِدْغَالَ[15]، وَلاَ مُدَالَسَةَ، وَلاَ خِدَاعَ فِيهِ»[16].
«وَلاَ مُدَالَسَةَ، وَلاَ خِدَاعَ فِيهِ، وَلاَ تَعْقِدْ عَقْداً تَجُوزُ فِيهِ الْعِلَلُ، وَلاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ القَوْل بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ، وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْر لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ، إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَإنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيق تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ، خَيْرٌ مِنْ غَدْر تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللهِ فِيهِ طَلِبَةٌ، لاَتَسْتَقِيلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَلاَ آخِرَتَكَ»[17].
وبذلك يقول المعتزلي: «ثم نهاه عن أن يعقد عقدًا يمكن فيه التأويلات والعلل وطلب المخارج، ونهاه إذا عقد العقد بينه وبين العدوان ينقضه معولًا على تأويل خفي أو فحوى قول، أو يقول: إنما عنيت كذا، ولم أعن ظاهر اللفظة، فإن العقود تعقد على ما هو ظاهر في الاستعمال متداول في الاصطلاح والعرف لا على ما في الباطن»[18].
ولمحمد عبده رأي آخر: «فإذا تعلل المتعاقد لك بعلة قد تطرأ على الكلام وطلب شيئًا لا يوافق ما أكدته المعاهدة، وأخذت عليه المواثيق، فلا تعولن عليه، وكذلك لو رأيت ثقلًا في التزام العهد فلا تركن الى لحن القول لتتخلص منه فأخذ بصرح الوجود لك وعليك»[19].([20]).
الهوامش:
[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، كتاب (53)، 17/79.
[2] المصدر نفسه، 17/81.
[3] ابن أبي الحديد، كتاب (53)، 17/81.
[4] المصدر نفسه، كتاب (53)، 17/81.
[5] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، كتاب (53)، 17/81.
[6] سورة الصف، (آية – 3).
[7] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، قصار الكلمات (341)، 19/214.
[8] المصدر نفسه، كتاب (53)، 17/81.
[9] المصدر نفسه، 17/81.
[10] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، قصار الكلمات (162)، 18/506.
[11] المصدر نفسه، 18/506.
[12] المصدر نفسه، 17/77.
[13] الإمام علي (عليه السلام) صوت العدالة الإنسانية، 5/94.
[14] وبذلك قد أشار الإمام (عليه السلام) في كلام له بقوله: «لولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس إلا ان لكل غدرة فجرة ولكل فجرة كفرة ألا وإن الغدر والفجور والخيانة في النار» يُنظر: المصدر السابق، (149)، 12/217.
[15] أدغال: الدّغل بالتحريك الفساد مثل الدخل ويقال قد أدغل في الأمر إذا أدخل فيه وما يخالفه = =ويفسده، الجوهري، تاج اللغة، مادة (دغل)، 4/1697.
[16] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، رسالة (53)، 17/77.
[17] المصدر نفسه، 17/77.
[18] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17/78.
[19] المصدر نفسه، 3/107.
([20]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الفكر الإداري عند الامام علي عليه السلام في نهج البلاغة، هدى ياسر سعدون، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة، العتبة الحسينية المقدسة: ص 230-235.