من الفكر السياسي عند الإمام علي عليه السلام منهجه في مواجهة القاسطين الحلقة الخامسة: موقف ابن خلدون من الإمام علي عليه السلام في حربه لمعاوية.

مقالات وبحوث

من الفكر السياسي عند الإمام علي عليه السلام منهجه في مواجهة القاسطين الحلقة الخامسة: موقف ابن خلدون من الإمام علي عليه السلام في حربه لمعاوية.

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 28-06-2022

بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

وبعد:
إن العنصر المادي الذي حاول الإمام علي عليه السلام تجريد الأمويين منه، كان هو السبب المباشر في التصدي للتيار الديني الداعي إلى المساواة المتمثل في سياسته التي أعلنها في الأيام الأولى من قبوله الخلافة[1]. وهو ما يدعونا إلى طرح مقولة ابن خلدون «بأن الفتنة بين علي (عليه السلام) ومعاوية، وهي مقتضى العصبية، كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد، ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي، ولا لايثار باطل... وانما اختلف اجتهادهم في الحق، وسفه كل واحد منهم نظر صاحبه...»[2] على بساط المناقشة، فمفهوم العصبية في فكر علي بن أبي طالب (عليه السلام) ـ كما يبدو لنا ـ يختلف اختلافاً جذرياً عن مفهومها عند ابن خلدون، الذي يرى ان الدعوة الدينية لا يمكن ان تتكلل بالنجاح ما لم تعتمد على عصبية قومية[3]، بانيا نظريته على الحديث الشريف «ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه»[4]، بينما يرى علي (عليه السلام) إن الذين أرادوا الكيد بالاسلام وإطفاء نوره هم قوم النبي (صلى الله عليه وآله) وعشيرته من قريش إذ يقول في إحدى رسائله لمعاوية «فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل وأحلسونا الخوف، واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب»[5]، فالدين في نبذه للعصبية يجيز مقاومة العشير وقتلهم بدافع الجهاد في سبيل الله وهو فحوى فكر علي (عليه السلام) الذي يعبر عنه بقوله «لقد كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وان القتل ليدور بين الاباء والأبناء والأخوان والقرابات، فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا إيماناً ومضياً على الحق»[6]. فالعصبية في مفهوم علي (عليه السلام) ـ كما يتهيأ لنا ـ هي مجموعة من القيم الأخلافية تعني التوق إلى بناء مجتمع مثالي يسير في ظل المبادئ الإسلامية. أما العصبية الأموية فهي مبنية على القيم الجاهلية التي تعتمد على النظرة الضيقة المحصورة في نطاق مصلحة العشيرة، كما أن العصبية الأموية لم تكن ـ في اعتقادنا ـ مبنية على أسس الاقتناع النفسي لكونها غلافاً خارجياً يقصد به المحافظة على المكاسب المادية، لذلك فإن ما اسماه ابن خلدون باجتهاد معاوية لا يتسق مع معنى الاجتهاد في الشريعة وهو «إعمال الرأي في التماس الحكم الشرعي»[7] في حالة عدم وجود نص الحكم لا في الكتاب ولا في السنة، ولكن القضية التي نشب النزاع بسببها بين علي عليه السلام ومعاوية حكمها ثابت شرعاً، كما يتهيأ لنا، لأن الدعوة الأساسية التي عمد معاوية إلى تضليل جمهور أهل الشام والسذج من المسلمين، وطلاب الدنيا من ذوي المصالح، هي الثأر لعثمان من قتلته، وهي دعوى متهافتة من جميع جوانبها كما يتبين لنا من خلال ما تبودل من رسائل بين علي عليه السلام ومعاوية. فمعاوية من الناحية الشرعية ليس هو الولي بدم عثمان حتى يطالب بالثأر من قتلته لأن أبناء عثمان وأخوته أولى منه بذلك[8]، ثم ان علياً عليه السلام يفترض أنه لو قبل ولاية معاوية في المطالبة بدم عثمان على أساس القرابة، فعلية أولاً: أن يدخل فيما دخل فيه عموم الناس من بيعة ملزمة، ومن ثم يحاكم القتلة أمام القائم بالأمر [9]، إذ لا يحق شرعاً لأي فرد من أفراد الأمة مهما علت منزلته أن يقتص من مجرم وأن يقيم حداً على زان أو أن يقتل قاتلاً في حالة وجود سلطة شرعية يمكنها القيام بذلك، لأن محاكمة الجناة في الإسلام وفي غيره من الشرائع السماوية والوضعية من اختصاص الحاكم، فقوله تعالى:
﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾[10]، وهي الآية التي اعتمد عليها معاوية في تضليله في المطالبة بالاقتصاص من قتلة عثمان، لا تعني في تفسيرها: قيام أهل القتيل وقرابته من الاقتصاص له من قتلته بأنفسهم، بل عليهم أن يمثلوا ومن اتهموه بالقتل أمام الحاكم «فإن حكم بالحق استقيمت حكومته، وإلا فسق وبطلت إمامته»[11]، لذلك فإن ادعاء معاوية بالتظاهر من أجل دم عثمان، هو في تصور علي عليه السلام مثله مثل «خدعة الصبي عن اللبن في أول الفصال»[12]، تلك الخدعة التي حاول معاوية التستر بها للبقاء في ولاية الشام طيلة حياته وبدون أي التزام تجاه خلافة علي عليه السلام [13]، مما يعني استعداده للسكوت عن عصبيته في المطالبة بالثأر من قتلة عثمان، فيما لو استجاب علي عليه السلام لطلبه.
فالغرض الدنيوي الذي حاول ابن خلدون تبرئة معاوية منه هو لب ثورته المفتعلة وهو في الوقت نفسه السبب المباشر الذي جعل علياً عليه السلام يقف منه موقف المتصلب، من أجل افشال مخططات الأمويين وعلى رأسهم معاوية الذي «قاد لمة من الغواة وعمس عليهم الخبر»[14] فجعلهم لا يعرفون من يحاربون[15].
فمأرب معاوية من العصيان وتجريده الجيوش لمقاتلة علي عليه السلام ـ كما نرى ـ هو مأرب دنيوي، بينما نرى أن موقف علي عليه السلام المتشدد تجاه معاوية ومن شايعه من الأمويين موقف ديني بحت هدفه المحافظة على نصاعة تعاليم الإسلام، لأن الحزم عنده «أن يخطر أمر الدين ثم لا يفكر في الموت»[16])[17].

الهوامش:
[1] راجع خطب 16.
[2] المقدمة 1/269.
[3] السابق 1/199، 200.
[4] السابق 1/199 ـ والحديث كما ورد بنصه عند أحمد بن حنبل ـ الذي انفرد بروايته ـ المسند 2/ 533 قال (صلى الله عليه وآله): قال لوط: لو ان لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، قال: قد كان ياوي إلى ركن شديد، ولكنه عنى عشيرته، فما بعث الله عزوجل بعده نبيا الا في ذروة قومه، قال أبو عمر: فمابعث الله عز وجل نبيا الا في منعة من قومة»فمن الملاحظ أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يقل «في منعة»ولكنه قال «في ذروة قومه»باضافة ذروة إلى قومه «وذروة كل شيء اعلاها»، ابن دريد ـ الجمهرة2/312، والذروة هنا ـ كما اعتقد ـ يقصد الرسول (صلى الله عليه وآله) بهاعلو النسب وعراقته، وقد كان اعلى قريشاً نسباً واطيبها ارومة، الا انه لم يكن الاقوى ولا الاغنى، بالاضافة إلى ان القول «في منعة من قومه» لم يكن ـ كما يبدو لنا ـ في حديث النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما كان تعقيباً من الرواي على قوله (صلى الله عليه وآله) كما ان الحديث بمفهوم العصبية التي أرادها ابن خلدون، لا يتسق مع ما ورد في القرآن الكريم من ايات بشأن وضع الابناء في اقوامهم، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ﴾ هود/89، فسياق الاية الكريمة يدل على ان العصيان والشقاق تجاه دعوات الرسل يأتي عادة من ذوي البأس والقوة في اقوامهم. انظرالأعراف /148 والتوبة/ 70 وهود/ 60 وق/12... ولو ان النبي (صلى الله عليه وآله) قد كان في منعة من قومه لما اضطرته قريش هو (صلى الله عليه وآله) وآل بيته من الهاشميين والطالبين إلى الشعب ولما عرض نفسه على القبائل الاخرى في مواسم الحج، ولما اضطرته قريش إلى الهجرة عن موطنه في نهاية المطاف.
[5] رسائل ـ9.
[6] خطب ـ 121.
[7] محمد تقي الحكيم: مقدمة كتاب النص والاجتهاد ص 43.
[8] راجع رسالة علي (عليه السلام) إلى معاوية: ابن أبي الحديد 3/89.
[9] راجع قول علي (عليه السلام) لمعاوية في شأن عثمان وقتلته الرسالة رقم 64.
[10] الاسراء/33.
[11] ابن أبي الحديد 18/21.
[12] رسائل ـ 64، الفقرة الأخيرة.
[13] في طلب معاوية ولاية الشام من علي (عليه السلام) بتلك الشروط راجع: ابن مزاحم ـ صفين 470.
[14] خطب ـ15
[15] لقد مارس معاوية مع أهل الشام كل أساليب التضليل التي تنأى بهم عن معرفة حقيقة علي (عليه السلام) راجع على سبيل المثال: ابن الاثير: الكامل في تاريخ 3/159.
[16] المبرد: الكامل في الأدب 1/206.
[17] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 266-270.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2812 Seconds