كاشفية خطاب الإمام علي عليه السلام عن عقائد العرب قبل الإسلام الحلقة الأولى: عقيدتهم بالجن والشياطين وآثارها النفسية والاجتماعية

مقالات وبحوث

كاشفية خطاب الإمام علي عليه السلام عن عقائد العرب قبل الإسلام الحلقة الأولى: عقيدتهم بالجن والشياطين وآثارها النفسية والاجتماعية

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 26-07-2022

بقلم السيد نبيل الحسني الكربلائي

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والصلاة والسلام على ابي القاسم محمد وعلى آله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم الى قيام يوم الدين.

أما بعد:

يمكن لنا تحديد معالم العقيدة بالجن والشياطين لدى العرب قبل الإسلام عِبْرَ التجائهم الى أشياء غريبة للتخلص من آذى الجن.

وذلك لكونها قوى شريرة ومؤذية وضارة ولها القدرة على إلحاق السوء بالإنسان فتصيبه بالجنون أو المرض، ومن ثم يلزم منه أن يلتجئ إلى قوى أخرى تساعده على التخلص من هذه الأضرار.

إلا أن الفارق بين التجاء الإنسان العربي للتخلص من هذه القوى، وبين التجاء الإنسان في الأمم والشعوب والديانات الأخرى هو تعدد هذه الطقوس وتنوعها وغرابتها التي تكشف إما عن الجهل المطبق الذي قيد عقل الإنسان العربي أو لخصوبة الخيال أو عبث الأهواء النفسية فيه.

فالإنسان الآسيوي الذي يعتقد بالديانة البوذية في الصين كان يتعامل مع الجن والشيطان عِبْر الغابات والأشجار الكثيفة والتصفير والممرات الملتوية؛ وعند اليهود كان التعامل يرتكز على تجنب الأماكن التي تسكنها هذه المخلوقات مع بعض التراتيل والتعويذات؛ أما المسيحيون فقد كان الرمز المخلص لهم من هذه القوى هو السيد المسيح (عليه السلام).

أما الإنسان العربي في شبه الجزيرة العربية فكان يلتجئ إلى مجموعة من الأشياء الغريبة التي لم يفصح عن علة تأثيرها في هذه القوى، وقد تناول أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) بيان أثر هذه المعتقدات في كثير من خطبه دون أن يخصصها بالاسم أو الصفة، وإنما لبيان حال العرب والناس جميعا وقد أخذت الفتن منهم كل مأخذ فتشتت أمرهم وضاق عليهم المخرج ولم يبصروا السبيل في خروجهم مما هم فيه من طاعة الشيطان ونصره عِبْر جملة من الطقوس والممارسات، فكانوا صورة للشياطين في أقوالهم وأفعالهم، فداستهم الفتن بأرجلها، فهم ساهرون باكون مشردون خائفون حتى فيما يعتقدون.

 فمنها قوله (عليه السلام):
«أَرْسَلَه بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ... والنَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَذَمَ فِيهَا حَبْلُ الدِّينِ، وتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي الْيَقِينِ، واخْتَلَفَ النَّجْرُ وتَشَتَّتَ الأَمْرُ، وضَاقَ الْمَخْرَجُ وعَمِيَ الْمَصْدَرُ، فَالْهُدَى خَامِلٌ والْعَمَى شَامِلٌ، عُصِيَ الرَّحْمَنُ ونُصِرَ الشَّيْطَانُ وخُذِلَ الإِيمَانُ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُه وتَنَكَّرَتْ مَعَالِمُه، ودَرَسَتْ سُبُلُه وعَفَتْ شُرُكُه، أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَه ووَرَدُوا مَنَاهِلَه، بِهِمْ سَارَتْ أَعْلَامُه وقَامَ لِوَاؤُه، فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا ووَطِئَتْهُمْ بِأَظْلَافِهَا، وقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا، فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ، فِي خَيْرِ دَارٍ وشَرِّ جِيرَانٍ، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ وكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ، بِأَرْضٍ عَالِمُهَا مُلْجَمٌ وجَاهِلُهَا مُكْرَمٌ».

وقال (عليه السلام):
«بَعَثَه والنَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ، وحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ، واسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ، واسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ، حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الأَمْرِ، وبَلَاءٍ مِنَ الْجَهْلِ».

وقال (عليه السلام):
«وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه، ابْتَعَثَه والنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ، ويَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَيْنِ، واسْتَغْلَقَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّيْنِ»[1].

أما هذه العقائد وطقوسها، فهي على النحو الآتي:

1. تعليق الحلي والقلائد على اللديغ واللسيع للنجاة من السموم.

اللديغ: بالدال المهملة والعين المعجمة هو اللسيع وزنا ومعنى، واللدغ اللسع، وأما اللذع بالذال المعجمة والعين المهملة فهو الإحراق الخفيف، واللدغ هو ضرب ذات الحمة من حية أو عقرب أو غيرهما، وأكثر ما يستعمل في العقرب[2].

والعرب قبل الإسلام كانوا يتعاملون مع اللديغ بأن يعلقوا عليه الحلي والجلاجل زاعمين أنه يفيق، وذلك؛ لأنهم أرادوا أشغاله بصلصالها حتى لا ينام فيسري السم فيه فيهلك.

وقيل لبعض الأعراب: أتريدون أن يسهر؟
أن الحلي لا تسهر، لكنها سنة ورثناها، وهو معتقد أفاد منه النابغة الذبياني يمثل سبب أرقه وسهره:

وعيد أبي قابوس في غير كنهه           أتاني ودوني راكس والضواجع
فبتّ كأنّي ساورتني ضئيلة               من الرّقش في أنيابها السمّ ناقع[3]

2. كعب الأرنب يُنّفْر الجن.

يعتقد أهل الجزيرة العربية قبل الإسلام بقدرة كعب الأرنب على تنفير الجن، ولذا؛ كانوا يعلقون على أيديهم كعب الأرنب كي يدفع عنهم الموت، وفي ذلك يقول امرؤ القيس وهو يخاطب أخته التي تقدم لخطبتها رجل يعتقد بأثر هذه الكعاب.

فيقول:
يا هند لا تنكحي بوهة                  عـــليـــه عـقيقتـــه أحســـبا
مـرســــعـة بيــن أرســاغــه          بـــه عســـم يبتـغي أرنبــــا
ليجعل في رجله كعبها               حــذار الـمنية أن يعطبا[4]

3. أتخاذهم الأقذار وخرقة الحيض وعظام الموتى لدفع الجنون.

من المعتقدات التي أشار إليها النويري في نهاية الأرب والمتصلة بالجن والشياطين هي اعتقاد أهل الجزيرة قبل الإسلام بتأثير القاذورات والنجاسات لاسيما خرقة الحيض وعظام الموتى على دفع الأرواح الشريرة المتمثلة بالشياطين والجن عن الإنسان، فقالوا: وانفع من ذلك أن تعلق عليه طامت عظام موتى ثم لا يراها يومه ذلك[5].

4. استخدامهم دم حيض السنور وسن الثعلب وسن الهرة لحفظ الصبي من الجن.

لم تزل علاقة الأطفال الحديثي الولادة بخوف الآباء والأمهات عليهم من الجن والهوام علاقة تلازمية منذ القدم ولا تزال، بل ولا تنتهي، ففي جميع الشعوب والأمم والديانات تلجأ الأم إلى ما تعتقد أنه يدفع عن ولدها الصغير الضرر من هذه القوى الغيبية.

حتى إذا جاء الإسلام وجد أن هذا الشعور الأمومي له ما يبرره لاسيما وإن القرآن الكريم يتحدث عن دور الجن في إلحاق الضرر بالإنسان كما في سورة الناس والفلق وغيرها من الآيات الكريمة.

من هنا: أراد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يضع المرأة المسلمة على منهج شرعي متحضر له القدرة على حجب هذه القوى بإذن الله تعالى وذلك بإتباع سنّة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما تعامل مع مولود فاطمة (عليها السلام) الأول وهو الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام).

فقام بتغيير كل تلك العادات الناشئة عن معتقدات فاسدة، فابتدأ أولاً بتغيير القماط الذي كانوا يلفون به المولود من القماش الأصفر إلى القماش الأبيض[6]، ونهاهم عن استخدام الدم في تحنيك الصبي أو وضعه على الجبين فسقى الحسن (عليه السلام) من ريقه وحنكه به، ثم أذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى وأمر بإماطة الأذى عنه، أي حلق شعر رأسه ووزنه والتصدق بوزنه[7]، وعق (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه بكبشين[8]، فأطعم المسلمين؛ وغيرها من مراسيم يوم السابع من عمر الطفل[9].

في حين كانت العرب في الجزيرة قبل الإسلام يستخدمون سن الثعلب وسن الهرة ودم حيض السمرة[10].
وفي ذلك تقول امرأة تصف عقيدتها بسن الثعلب والهرة ودم شجرة السمرة فتقول:

كانت عليه سنّة من هرة                           وثعلب، والحيض حيض السمرة

وكانت العرب إذا ولدت المرأة أخذوا من دم السمر وهو صمغه الذي يسيل منه ينقطونه بين عيني النفساء، وخطوا على وجه الصبي خطاً، ويسمى هذا الصمغ السائل من السمر (الدودم) ويقال بالذال المعجمة أيضاً، وتسمى هذه الأشياء التي تعلق على الصبي (النفرات).
فإذا أريد طرح الأرواح وأبعادها، يلجأ إلى (التنفير)، وطريقتهم في ذلك شبيهة (بطرقهم في تنفير الثقلاء وغير المرغوب فيهم من الناس وإبعادهم، وذلك باتخاذ كل ما ينفر ويقزز، لتعاف تلك الأرواح المواضع التي اختارتها والأشخاص الذين نزلت بساحتهم وحلت في أجسامهم.
وما زال لهذه الخرافات أشباه يدين بها بعض الجاهلات في بعض بلاد العرب، فيعلقن على الصبي تمائم فيها ناب ذئب وسن ثعلب وغيرها)[11].

5. اعتقادهم بأن الإنسان إذا نهق نهيق الحمير عشر مرات أمن من جن المدن قبل الدخول إليها.

ومن العقائد لدى العرب قبل الإسلام والمرتبطة بعقيدتهم بالجن: إن أحدهم إذا أراد أن يأمن من شر الجن حينما يروم الدخول إلى مدينة جديدة أن يقف على بابها (وينهق عشراً) كما ينهق الحمار ثم يدخلها لم يصبه شيء، وخاصة إذا علق عليه كعب الأرنب[12]، وهذه العقيدة تسمى بالتعشير.
قال الهيثم بن عدي خرج عروة بن الورد في رفقة إلى خيبر ليمتاروا، -أي: يشتروا التمر- فلما قربوا منها عشروا، ولم يفعل عروة فعلهم؛ لأنه فارس يتقبل الموت ولا تهزه خرافة اليهود فيحتمي بها وقال:

وقالوا أحب وانهق لا تضرك خيبر                   وذلك من دين اليهود ولوع
لعمري لئن عشرت من خشية الردى            نهاق الـحمير إنني لـجزوع[13])[14]

الهوامش:
[1] نهج البلاغة، الخطبة: 191
[2] نيل الأوطار للشوكاني: ج6، ص29.
[3] التذكرة الحمدونية، ابن حمدون: ج4 ص 107.
[4] شعار الشعراء الستة الجاهليين، أبو الحجاج، يوسف بن سليمان بن عيسى الشنتمري الأندلسي المعروف بالأعلم ( المتوفى: 476 هـ): ص19.
[5] نهاية الأرب للنويري: ج2، ص319.
[6] ذخائر العقبى للطبري: ص120؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج2، ص200.
[7] صحيح الترمذي، باب: الأذان في أذن المولود برقم (1514).
[8] صحيح النسائي عن ابن عباس: ج7، ص165 - 166؛ صحيح ابن حبان: برقم (1061).
[9] كتاب النكاح للشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره: ص491؛ فقه الصادق للسيد الروحاني: ج22، ص284.
[10] السمرة: شجر الطلح وله صمغ كريه الرائحة فإذا أكلتها النحلة حصل لعسلها من ريحه، وهو الذي يسمى عرفط، وقد أشارت إليه عائشة وحفصة حينما تآمرتا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالت: كل منهما له (صلى الله عليه وآله وسلم): أشم منك رائحة العرفط، فحرم على نفسه شرب العسل؛ (أنظر صحيح البخاري، كتاب الطلاق، باب: لم تحرم ما أحل الله لك: ج6، ص167).
ولشجرة السمرة: سائل صمغي له لون كلون الدم فإذا سال شبه سيلانه بالحيض وهو الذي كانت الأمهات تأخذ منه فتضعه على صبيها كي لا تقربه الجن.
[11] المعتقدات الشعبية في الموروث الشعري لعبد الرزاق خليفة: ص53 - 54.
[12] نهاية الأرب: ج2، ص315.
[13] معجم البلدان، الحموي: ج3 ص85 .
[14] ينظر: أثر الميثولوجيا العالمية في تكوين عقائد العرب قبل الإسلام، السيد نبيل الحسني: ص88-95أصدار العتبة الحسينية المقدسة – مؤسسة علوم نهج البلاغة/ ط1 دار الوارث- 2022م.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2561 Seconds