بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
قال عليه السلام)): أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ وآذَنَتْ بِوَدَاعٍ وإِنَّ الآخِرَةَ قَدْ (أقْبَلَتْ، و)[1] أَشْرَفَتْ بِاطِّلَاعٍ أَلَا وإِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارَ وغَداً السِّبَاقَ والسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ والْغَايَةُ النَّارُ أَفَلَا تَائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنِيَّتِهِ! أَلَا عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِهِ! أَلَا وإِنَّكُمْ فِي أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ؛ فَمَنْ عَمِلَ فِي أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ ولَمْ يَضْرُرْهُ أَجَلُهُ..))[2].
شرح الألفاظ الغريبة:
آذَنَتْ: أعْلَمَتْ. أشْرَفَتْ باطّلاعٍ: أقبلت علينا بغتةً.
الْمِضْمَارَ: الموضع والزمن الذي تضمّر فيه الخيل، وتضمير الخيل أن تربط ويكثر علفها وماؤها حتى تسمن، ثم يقلل علقها وماؤها وتجري في الميدان حتى تهزل، ثم ترد إلى القوت، والمدة أربعون يوماً، وقد يطلق التضمير على العمل الأول أو الثاني، وإطلاقه على الأوّل لأنه مقدّمه للثاني وإلاّ فحقيقة التضمير إحدى الضمور وهو الهزال وخفة اللحم، وإنما يفعل ذلك بالخيل لتخف في الجري يوم السباق.
السَّبَقَةُ – بالتحريك – الغاية التي يجب على السابق أن يصل إليها. المنيّة: الموت والأجل. البؤس – بالضم- اشتداد الحاجة وسوء الحالة[3].
شرح ابن ميثم البحراني:
قال الشريف: أقول: لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا، ويضطر إلى عمال الآخرة لكان هذا الكلام، وكفى به قاطعاً لعلائق الآمال، وقادحاً زناد الاتعاظ والانزجار، ومن أعجبه قوله عليه السلام: ((أَلَا وإِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارَ وغَداً السِّبَاقَ والسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ والْغَايَةُ النَّارُ)) فإنّ فيه – مع فخامة اللفظ، وعظم قدر المعنى، وصادق التمثيل، وواقع التشبيه – سرّاً عجيباً، ومعنى لطيفاً، وهو قوله عليه السلام: ((والسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ والْغَايَةُ النَّارُ))، فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين، ولم يقل: ((السبقة النار)) كما قال: ((والسبقة الجنة))؛ لأنّ الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب، وغرض مطلوب، وهذه صفة الجنة، وليس هذا المعنى موجوداً في النار، نعوذ بالله منها، فلم يجز أن يقول: ((السبقة النار))، بل قال: ((الغاية النار))؛ لأنّ الغاية ينتهي إليها من لا يسرّه الانتهاء إليها، ومن يسرّه ذلك، فصلح أن يعبر بها عن الأمرين معاً، فهي في هذا الموضع كالمصير والمال. قال الله تعالى ﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾[4]. ولا يجوز في هذا الموضع أن يقال: سبْقتكم – بسكون الباء – إلى النار، فتأمّل ذلك، فباطنه عجيب وغوره بعيد.
أقوال: هذا الفصل من الخطبة التي أوّلها : ((الحمد لله غير مقنوط من رحمته)) وسيجيء بعد، وإنما قدمه الرضي عليها؛ لما سبق من اعتذاره في خطبة الكتاب أنّه لا يراعي التتالي والنسق في كلامه عليه السلام.
وقوله: ((قد أدبرت)) أي ولّى دبره؛ ((وآذنت)): أي أعلمت، ((وأشرفت)): أي اطلعت، والمضمار: المدّة التي يضمر فيها الخيل للمسابقة، أي تعلق حتى تسمن ثمّ تردّ إلى القوت، والمدّة أربعون يوماً، وقد يطلق على الموضع الذي يضمر فيه أيضاً، والسباق: مصدر مرادف للمسابقة، وهو أيضاً جمع سبقة كنطفة ونطاف، أو سبقة: كحجلة وحجال، أو سبقٍ: كجمل وجمال، والثلاثة اسم لما يجعل للسابق من مال أو غرض.
واعلم أنّ الفصل يشتمل على أحد عشر تنبيها:
الأوّل: على وجوب النفار عن الدنيا وعدم الركون إليها؛ وذلك بقوله: ((ألا وإنّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع)).
وأشار بإدبار الدنيا وإعلامها بالوداع إلى تقضي الأحوال الحاضرة بالنسبة إلى كلّ شخص من الناس، من صحّةٍ وشبابٍ وجاهٍ ومالٍ وكلّ ما يكون سبباً لصلاح حال الإنسان، وأنّ كلّ ذلك في هذه الحياة الدنيا لدنوّها من الإنسان... .
الثاني: التنبيه على الإقبال على الآخرة، والتيقّظ للاستعداد لها بقوله: ((ألا وإنّ الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع)).
ولما كانت الآخرة عبارة عن الدار الجامعة للأحوال التي يكون الناس عليها بعد الموت، والحصول فيها يشتمل عليه من خير أو شر حسن إطلاق لفظ الإقبال عليها مجازاً، ثم نزلها لشرفها – على الدنيا في حال إقبالها – منزلة عالٍ عند سافل. فأسند إليها لفظ الإشراف – ولأجل إحصاء الأعمال الدنيويّة فيها منزلة – عالم مطّلع، فأطلق عليها لفظ الاطلاع.
ويحتمل أن يكون إسناد الإشراف بكيفية الاطّلاع إلى ربّ الآخرة، وإنّما عبّر بالآخرة عنه تعظيماً لجلاله، كما يكنّى عن الرجل الفاضل بمجلسه وحضرته، ويكون كيفيّة الاطّلاع قرينة ذلك.
الثالث: التنبيه على وجوب الاستعداد بذكر ما يستعدّ لأجله وهو السباق وذكر ما يستبق إليه وهو غاية المقصّر المتخلّف عن نداء الله، وذلك قوله: ((ألاَ وإنّ اليوم المضمار)) إلى قوله: ((والغاية النار)) كنّى باليوم عن مدّة عمر الإنسان الباقية له وأخبر بالمضمار عنها... وإنّما أطلق اسم المضمار على تلك المدّة لما بينهما من المشابهة فإنّ الإنسان في مدّة عمره يستعدّ بالتقوى ويرتاض بالأعمال الصالحة لتكميل قوّته، فيكون من السابقين إلى لقاء الله والمقرّبين في حضرته، كما يتسعدّ الفرس بالتضمير لسبق مثله..[5] )([6]).
الهوامش:
[1] ما بين القوسين: ليس في نهج ابن ميثم ونهج محمد عبده.
[2] نهج البلاغة لصبحي صالح: 71/ خطبة رقم28، ونهج البلاغة للشيخ العطار: 87- 88/ خطبة رقم 28، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 2: 39-40/ خطبة رقم 27، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 78- 79.
[3] شرح الألفاظ الغريبة لصبحي صالح: 575.
[4] إبراهيم: 30.
[5] شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 2: 40- 48/ شرح الخطبة رقم 27.
([6]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 16-20.