من الفكر السياسي عند الإمام علي عليه السلام: منهجه عليه السلام في مواجهة المارقين. / الحلقة الأولى: موقف الإمام علي عليه السلام من رفع المصاحف

مقالات وبحوث

من الفكر السياسي عند الإمام علي عليه السلام: منهجه عليه السلام في مواجهة المارقين. / الحلقة الأولى: موقف الإمام علي عليه السلام من رفع المصاحف

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 02-08-2022

بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

وبعد:
المروق هو الخروج من غير مدخله، والمارقة «الذين مرقوا من الدين لغلوهم فيه»[1]، ولقد أطلق لقب المارقين على الخوارج لغلوهم في الدين، وتكفيرهم كل من يخالف عقيدتهم[2] وسموا أيضاً بالمحكمة الأولى لرفضهم صحيفة التحكيم[3] بعد أن أجبروا علياً عليه السلام على قبول عرض أهل الشام بتحكيم القرآن، إثر رفعهم المصاحف حين أوشكت أن تحل الهزيمة بهم، وأدركوا أن لا مفر من القيام بعمل يفت من عزيمة أصحاب علي عليه السلام، ويحول بينهم وبين النصر المحقق.

موقف علي عليه السلام من قضية رفع المصاحف:
قد يقال إن قضية رفع المصاحف في صفين، هي من وحي ساعة الهزيمة كما تذكر معظم المصادر التاريخية[4]، ولكن المرجح غير ذلك، لأن المفروض في أية قيادة عسكرية قبل عزمها على مواجهة عدوها أن تضع في حسبانها احتمالي النصر والهزيمة، وتضع لكلا الاحتمالين خطته المناسبة. لذلك ـ فمن المعتقد ـ ان قضية رفع المصاحف كانت محسوبة تماماً، ومخطط لها من قبل، باتفاق قد يكون مجرد فكرة في البداية، ولكن استطالة أمد الحرب، جعل ذلك الاتفاق شبه مؤكد بالنسبة لمعاوية، والمخذلين في جيش علي عليه السلام، خاصة أن المصادر التاريخية تطلعنا على جوانب كثيرة من الحوار المتبادل بين طرفي النزاع فجاء أثناء فترات الهدنة[5].

ثم أن فكرة تحكيم القرآن ـ في حد ذاتها ـ ليست جديدة أو مفاجئة بالنسبة لكلا طرفي النزاع، فلقد سبق ان عرضها علي عليه السلام على أصحاب الجمل، ولكن قبل نشوب المعركة كحل يتفادى به احتكام المسلمين إلى السيف[6]، وليس عرضه على معاوية الدخول فيما دخل فيه الناس، ثم محاكمة قتلة عثمان بالقرآن[7]،إلا من قبيل حقن الدماء، لذلك فليس من المستبعد ان يعلم أهل الشام بما فعله علي عليه السلام «من رفع المصاحف لأهل الجمل ففعلوا مثله»[8].

فالمفاجأة لا تكمن في رفع المصاحف، ولكنها تكمن في توقيت رفعها، وهو مما أوقع كثيرٌ من فرق الجيش المنتصر في الإرتباك والحيرة، ثم توقفها عن مقاتلة من لجأوا إلى القرآن حكماً. وهنا في هذا الموقف الدقيق والمحير تتجلى رباطة جأش علي عليه السلام وبعض أصحابه المخلصين، بإصرارهم على مواصلة القتال حتى النهاية، لا لأنهم لا يريدون النزول إلى حكم القرآن، ولكن مواصلة القتال كما يقول«ليدينوا بحكم القرآن، فإنهم عصوا الله فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه»[9]، إلا أن استطالة امد الحرب، وما احدثته المفاجأة من تشتت فكري، حال بين علي عليه السلام وبين اقناع أولئك المتمردين بالمضي في الحرب حتى نهايتها، في مقابل إصراره «جاءه زهاء عشرين الفاً مقنعين في الحديد شاكي السلاح سيوفهم على عواتقهم... فنادوه باسمه، لا بإمرة المؤمنين: يا علي عليه السلام أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، والا قتلناك»[10]. مع ملاحظة أن ذلك الحماس الجامح لم يكن عن اقتناع إيماني، وإنما هو وليد عاطفة آنية، ناجمة عن نظرة سطحية في مجريات الحوادث.

فمحاربتهم لمعاوية ومن ناصره من أهل الشام، قد كانت نابعة من اعتقاد ديني هدفه ارجاعهم عن ضلالهم، وها هم قد ثابوا إلى رشدهم، واستجابوا لما يراد منهم لذلك فمن الملزم الاستجابة لطلبهم بالنزول إلى حكم القرآن في قضية الحاكم المقتول (عثمان). وقد حاول علي عليه السلام جاهداً ثنيهم عن عزمهم، وحثهم على مواصلة القتال بتبصريهم بحقيقة الأمويين من خلال مرارة تجربته معهم، فهم من وجهة نظره «ليسوا بأصحاب دين ولا قرآنٍ... والله ما رفعوها ـ أي المصاحف ـ إنهم يعرفونها ويعلمون بها، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة»[11]، فما اقدموا عليه بعد شعورهم بالهزيمة، كما يقول علي عليه السلام «ظاهره إيمان وباطنه عدوان، وأوله رحمة وآخره ندامة»[12] لذلك فمن واجب أهل العراق، المضي فيما هم عليه من جهاد العدو حتى النهاية «دون الإلتفات إلى ناعق نعق، ان أجيب أضل وان ترك ذل»، لكن جهوده في إقناعهم لم تفلح فأوقهم تقديرهم المرتجل في شرك الخديعة التي حذرهم علي عليه السلام منها، والتي يمثل توقيت رفع المصاحف الجانب الأول منها، تلاه اختيار من يمثل الطرفين في الحكم بالقرآن، في القضية المختلف فيها[13].

 الهوامش:
[1] لسان العرب المحيط 3/472.
[2] راجع عقائد الخوارج عند الاشعري، مقالات الإسلاميين ص 86 وما بعدها.
[3] راجع: الشهرستاني: الملل والنحل 1/115.
[4] راجع ذلك عند: البلاذري: انساب الأشراف 2/323، الدينوري: أخبار الطوال ص 188 اليافعي: مرآة الجنان 1/138، أما ابن مزاحم ـ صفين، ص 477 فيرى ان قضية رفع المصاحف قد أعد لها من قبل.
[5] راجع على سبيل المثال: الرسالتين المتبادلتين بين علي عليه السلام ومعاوية في صفين ـ شرح ابن أبي الحديد 17/250، بشأن تداخل طرفي النزاع وتسامح بعضهما عن بعض راجع: صفين ـ ص 332، 334، 335، 366، 368، 385.
[6] راجع ذلك عند الطبري: تاريخ الرسل والملوك 4/511، ابن أعثم الكوفي: الفتوح 2/477.
[7] راجع قول علي عليه السلام لمعاوية بشأن ذلك: رسائل 64، فقرة 5.
[8] أنساب الأشراف 2/323.
[9] ابن مزاحم ـ صفين، ص 489 ـ 490.
[10] السابق.
[11] المصدر السابق.
[12] خطب ـ 121، فقرة 2.
[13] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 273-277.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2421 Seconds