تفرد الإمام الحسن عليه السلام بمشروعه في تحقيق الأمن الإنساني على جميع الحكام بتنازله عن الحكم وتقديم رؤية جديدة عن الأمن القومي.

مقالات وبحوث

تفرد الإمام الحسن عليه السلام بمشروعه في تحقيق الأمن الإنساني على جميع الحكام بتنازله عن الحكم وتقديم رؤية جديدة عن الأمن القومي.

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 04-09-2022

بقلم: السيد نبيل الحسني.

لم تزل تلك الرؤى والمناقشات التي تدور في أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة أو المؤسسات والمؤتمرات التي ارتبطت بها إلى المبادرة العملية في تحقيق الأمن الإنساني بمفهومه الذي خلصت إليه في قرارها حول الأمن البشري.
ومن ثم لم يزل الناس جميعاً تحت وطأة فقدان الأمن وحرية العيش بكرامة وفي عوز مستمر وحاجة ملحة تؤرق مضجعهم وتؤلم أبناءهم ونساءهم وإن كان التفاوت في الأمن وحرية العيش بكرامة والتحرر من الخوف والعوز والحاجة متفاوتاً بنسب ما في بقاع الأرض.

والسبب يعود إلى:

1. عدم جدية الحكومات جميعاً في تقديم الإنسان على السلطة والدولة وكرسي الحكم، بل يبقى شأن الدولة ورأس الهرم فيها على مقدمة اهتماماتها.

2. عدم توفر النية الصادقة في تحقيق الأمن الإنساني لدى أكبر الدول ومن بيدها صنع القرار ومنابع الاقتصاد وموارد الطاقة وسوق المال والتجارة.

3. تقديم الأمن القومي على الأمن الإنساني وتغليب مشروع الهيمنة على الشعوب النامية والفقيرة أي: إن تحصيل رفع العوز والحاجة وتحقيق الأمن والتنمية يمنع من تحقيق مشروع الهيمنة لدى رجالات هذه الدول وفرض هيبتها على الناس.

ومن ثم يكون الأمن الإنساني حاجزاً لها عن فرض هيمنتها واحتياج الشعوب والحكومات إليها مما يشكل تراجعاً في نفوذها وبقائها؛ فيتعارض حينها الأمن الإنساني مع الأمن القومي؛ في حين نجد أن هذا الواقع مختلف تماماً في خلافة الإمام الحسن عليه السلام، فقد قدم رؤية جديدة للأمن القومي غير التي يقدمها المعنيون بالقانون الدولي وشؤون الحكم والسياسة.
فجميع الدول تذهب إلى أن حفظ الأمن القومي مقدم على حفظ الأمن الإنسان بل به يتحقق أمن الإنسان؛ في حين نجد أن الإمام الحسن عليه السلام يجعل أمن الإنسان محقق لأمن الدولة والحكومة وهي حقيقة أثبتتها الحياة في بقاع مختلفة من الأرض.

فكم من حكومة انقلب عليها مواطنوها حينما وجدوا منها الذل والعيش بمهانة وتردٍ في الأوضاع وحرمان حتى من حق النقد والتعبير عن الرأي، وكل ذلك كان يجابه من هذه الحكومات بعنوان المساس بـ(الأمن القومي)، فبات مصداق (الأمن القومي) هو أمن رأي رئيس الدولة وأعضاء دولته وخاصته. فضلاً عن إبراز عنوان حق الحاكم في البقاء في منصبه حتى لو لزم الأمر أن يتوشح راية الحرب على جسده ويقاتل الناس بيده.

وعليه:
يقدم لنا الإمام الحسن عليه السلام درساً عملياً في تصحيح بناء الأمن الإنساني؛ كما يقدم لنا رؤية جديدة في الأمن القومي مرتكزة على تقديم أمن الإنسان ولو تطلب ذلك التنازل عن منصب الحكم أو السلطة أو الخلافة كما فعل هو ذلك، حينما وجد أن التهديدات الواقعة والناشئة ستؤدي إلى هلاك الناس ويعم خطرها الأخضر واليابس، فعزم على التخلي عن الحكم والخلافة ما دام هذا الأمر يحقق الأمن للناس جميعاً حيث كانوا من أرض الله تعالى، على الرغم من حقه الشرعي والعرفي والقانوني بالحكم والخلافة، وهو ما صرح عنه في جملة من النصوص التي تكشف عن العلة والحكمة في إقدامه على الصلح؛ فضلاً عن تصريحه عن حقه في الخلافة الذي قدمه تحقيقاً للأمن الإنساني، فكانت هذه النصوص كالآتي:

1. روى أحمد بن عبد الله الطبري (المتوفى سنة 694هـ) عن الإمام الحسن عليه السلام، أنه قال: «ما أحببت منذ علمت ما ينفعني ويضرني أن ألِيَ أمر أمة محمد صلى الله عليه وآله على أن يهراق في ذلك محجمة دم»([1]).

2. وروى أيضاً عن أبي العريف قال: (كنا في مقدمة الحسن بن علي إثني عشر ألفا مستميتين حرصاً على قتال أهل الشام، فلما جاء الحسن الكوفة أتاه شيخ منا يكنى أبا عمر وسفيان بن أبي ليلى، فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين!!
فقال عليه السلام:
«لا تقل يا أبا عمرو، فإني لم أذل المؤمنين ولكن كرهت أن أقتلهم في طلب الملك»)([2]).

3. وأخرج الحاكم النيسابوري عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: (قلت للحسن بن علي، إن الناس يقولون إنك تريد الخلافة([3])؟ فقال عليه السلام:
«قد كانت جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربت ويسالمون من سالمت تركتها ابتغاء وجه الله تعالى، وحقن دماء أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ابتزها بأتياس([4]) أهل الحجاز»)([5])، وفي لفظ أخرجه الصدوق (ثم أثيرها بأتياس أهل الحجاز)([6]).

4. وأخرج الحافظ ابن أبي شيبة الكوفي (المتوفى سنة 235هـ)، وغيره بألفاظ متقاربة، (عن الشعبي، قال: خطب الإمام الحسن عليه السلام وقد طلب منه معاوية أن يخطب الناس. فقال - عليه السلام -:
«الحمد لله الذي هدى بنا أولكم، وحقن بنا دماءكم، ألا إن أكيس الكيس التقى، وأعجز العجز الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية حق كان لي فتركته لمعاوية، أو حق كان لامرئ أحق به مني، وإنما فعلت هذا لحقن دمائكم وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع»)([7]).
وفي لفظ:
«أو حق لي تركته لإرادة صلاح المسلمين وحقن دمائهم، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين»([8]).
وفي لفظ آخر:
«حق كان لي فتركته له، وإنما فعلت ذلك لحقن دمائكم، وتحصين أموالكم، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين»([9]).
وفي لفظ آخر، أنه عليه السلام قال:
«أيها الناس إن أكيس الكيس التقى، وإن أحمق الحمق الفجور، وإنكم لو طلبتم ما بين جابلق وجابرص، رجلا جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين؛ وقد علمتم أن الله هداكم بجدي محمد، وأنقذكم به من الضلالة، ورفعكم به من الجهالة، وأعزكم به بعد الذلة، وكثركم به بعد القلة، وإن معاوية نازعني على حق هو لي دونه، فنظرت صلاح الأمة، وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت، وإن معاوية واضع الحرب بيني وبينه، وقد بايعته ورأيت أن ما حقن الدماء خير مما سفكها، ولم أرد بذلك إلا صلاحكم وبقاءكم:
{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}([10])»([11]).

5. وروى ابن أعثم الكوفي (المتوفى سنة 314هـ) أن معاوية تكلم بعد هذه الخطبة التي ألقاها الإمام الحسن عليه السلام، فقال:
«أيها الناس! إنه لم تتنازع أمة كانت قط من قبلنا في شيء من أمرها بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلا هذه الأمة، فإن الله تعالى أظهر خيارها على أشرارها، وأظهر أهل الحق على أهل الباطل ليتم لها بذلك ما أسداها من نعمة عليها، فقد استقر الحق قراره، وقد كنت شرطت لكم شروطا أردت بذلك الألفة واجتماع الكلمة وصلاح الأمة وإطفاء النائرة، والآن فقد جمع الله لنا كلمتنا وأعز دعوتنا، فكل شرط شرطته لكم فهو مردود، وكل وعد وعدته أحدا منكم فهو تحت قدمي».
قال: فغضب الناس من كلام معاوية وضجوا وتكلموا، ثم شتموا معاوية وهموا به في وقتهم ذلك، وكادت الفتنة تقع، وخشي معاوية على نفسه فندم على ما تكلم به أشد الندم.
وقام المسيب بن نجبة الفزاري إلى الحسن بن علي فقال: لا والله جعلني الله فداك، ما ينقضي تعجبي منك، كيف بايعت معاوية ومعك أربعون ألف سيف، ثم لم تأخذ لنفسك ولا لأهل بيتك ولا لشيعتك منه عهدا وميثاقا في عقد طاهر، لكنه أعطاك أمرا بينك وبينه ثم إنه تكلم بما قد سمعت، والله ما أراد بهذا الكلام أحدا سواك، فقال له الحسن - عليه السلام-:
«صدقت يا مسيب! قد كان ذلك فما ترى الآن؟»، فقال: أرى والله أن ترجع إلى ما كنت عليه وتنقض هذه البيعة، فقد نقض ما كان بينك وبينه! قال: ونظر الحسن بن علي إلى معاوية وإلى ما قد نزل به من الخوف والجزع، فجعل يسكن الناس حتى سكنوا، ثم قال للمسيب:
«يا مسيب! إن الغدر لا يليق بنا ولا خير فيه، ولو أني أردت بما فعلت الدنيا لم يكن معاوية بأصبر مني على اللقاء، ولا أثبت عند الوغاء، ولا أقوى على المحاربة إذا استقرت الهيجاء، ولكني أردت بذلك صلاحكم وكف بعضكم عن بعض، فارضوا بقضاء الله وسلموا الأمر لله حتى يستريح بر ويستراح من فاجر»)([12]).

6. وأخرج الشيخ الطوسي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 460هـ) عن أبي عمر زاذان عن الإمام الحسن عليه السلام وقد سمع معاوية يخطب الناس فيقول لهم: (إنّ الحسن بن علي رآني للخلافة أهلاً ولم ير نفسه لها أهلاً، وكان الإمام الحسن أسفل منه بمرقاة فلما فرغ من كلامه، قام عليه السلام، فحمد الله تعالى ما هو أهله، ثم ذكر المباهلة وغيرها مما يخص أهل البيت عليهم السلام إلى أن قال:
«إن معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها أهلاً، فكذب معاوية، نحن أولى الناس بالناس في كتاب الله، على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...»)([13]).

7. وأخرج شيخ الطائفة الشيخ الطوسي رحمه الله تعالى في حديث طويل عنه عليه السلام، إنه قال:
«أيها الناس إنه لا يعاب أحد يترك حقه، وإنما يعاب أن يأخذ ما ليس له»([14]).

وهذه النصوص تكشف عن جملة أمور، منها:

أ: إثبات حقه في الخلافة الإسلامية التي بايعه المسلمون عليها بعد أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام.

ب: إنه لم يساوم على حقه في الخلافة وإنما قام بهذا الصلح لأجل صلاح الأمة وحقن دمائها وتعايش أهلها من الموالين مع أهل الديانات الأخرى وهو ما يحقق الأمن الإنساني.

ج: فضح معاوية وبيان اغتصابه للخلافة التي هي محرمة عليه لكونه من الطلقاء الذين أسرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة فقال:
«أذهبوا فأنتم الطلقاء»، فكيف بمن كان طليقاً لا يعرف الإسلام يكون خليفة للمسلمين ويتحكم في أمور دينهم ودنياهم.

د: قطع الطريق على من يريد أن يجمع بين الخلافة السلطوية، وبين الخلافة الإلهية التي هي بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الذين جعلهم الله ورسوله عدل القرآن والثقل الأصغر، كما هو متواتر من الأحاديث الشريفة عنه صلى الله عليه وآله وسلم، في حديث الثقلين القرآن والعترة النبوية، وهم أهل بيته.

هـ: ورد في الحديث الخامس في اللفظ الذي أخرجه ابن أعثم الكوفي بيانه عليه السلام للخلافة الإلهية والخلافة السلطوية في خطابه للناس بعد الصلح، وبيّن عليه السلام أن هذه الانجازات التي حققها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والتي باتت تعرف اليوم بالأمن الإنساني فضلاً عن التنمية وحقوق الإنسان وحرية العيش بكرامة والتخلص من الفقر والحاجة والعوز وغير ذلك، إنما هي من مقتضيات الخلافة الإلهية[15] .

الهوامش:
([1]) ذخائر العقبى: ص139.
([2]) المصدر السابق نفسه.
([3]) وهذا كان بعد الصلح ورجوع معاوية إلى الشام فبعث من يسأل الإمام الحسن عليه السلام عن حقه في الخلافة خوفاً أن يعاود الإمام المطالبة بهذا الحق، لاسيما وإن معاوية قد نقض الصلح ومزق الوثيقة ووضعها تحت قدميه أمام الناس، للمزيد ينظر: (مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الاصفهاني: ص45؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج16، ص46).
([4]) جمع تيس، وهو الذكر من الماعز.
([5]) المستدرك على الصحيحين: ج3، ص170؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج12، ص206؛ تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص210.
([6]) علل الشرائع للصدوق: ج1، ص220..
([7]) المصنف لابن أبي شيبة: ج7، ص277، برقم (65) من كتاب الأمراء.
([8]) فتح الباري لابن حجر: ج13، ص54؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج8، ص173؛ مستدرك الحاكم للنيسابوري: ج3، ص175؛ المعجم الكبير للطبراني: ج3، ص26.
([9]) شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج3، ص105.
([10]) سورة الأنبياء، الآية: 111.
([11]) الفتوح لابن أعثم الكوفي: ج4، ص293.
([12]) المصدر السابق نفسه.
([13]) الأمالي للطوسي: ص560.
([14]) الأمالي للطوسي: ص566.
[15] لمزيد من الاطلاع ، ينظر : الامن الإنساني في خلافة الامام الحسن عليه السلام ، السيد نبيل الحسني : ص157-164 ط1 العتبة الحسينية المقدسة .

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2779 Seconds