بقلم: السيد نبيل الحسني
قال الجصاص وغيره -كما سيمر بيانه لاحقاً- في الاستدلال على أن الإرث في الآيتين غير المال، سواء كان النبوة أو العلم أو أمور الدين أو الشريعة أو الحبورة وغيرها، فهذه الموارد عند الجصاص وغيره من المفسرين يمكن حملها وتأويلها في الإرث بين الأنبياء (عليهم السلام) إلا المال.
والعلة في ذلك -بحسب قول الجصاص- هي:
(أن نبي الله لا يجوز أن يأسف على مصير ماله بعد موته الى مستحقه، وانه خاف أن يستولي بنو أعمامه؛ إنما خاف أن يستولي بنو أعمامه على علومه وكتابه، فيحرفونها ويستأكلون بها، فيفسدون دينه، ويصدّون الناس عنه)[1].
أقول:
1 ـ إنّ من المضحك المبكي أن يقرَّر الجصاص وغيره ما يجوز للأنبياء (عليهم السلام) وما لا يجوز لهم!!
2 ـ كأنَّ الجصاص هو صاحب هذا المال وليس الأنبياء (عليهم السلام)، وذلك بتحديد مصير هذا المال الى مستحقين له، وغير مستحقين، فإن كان قد ذهب الى مستحقيه فلا يجوز لهم التأسف، وإذا وصل الى غير المستحقين جاز لهم أن يتأسفوا على مالهم!!.
3 ـ إنّ هذا التغليط في التأويل سببه الانتصار لخصم بضعة النبوة فاطمة (عليها السلام) وإلاّ فقد حكم الجصاص بهذا القول، إنّ مال الأنبياء (عليهم السلام) ينتقل بموتهم وتزول ملكيتهم عنه، وأن القابضين له هما صنفان، الأول: المستحقون لهذا المال، ومن ثم فلا يجوز للأنبياء التأسف على مصير هذه الأموال، وذلك أن الله عزّ وجل قد فرض على الأنبياء وغيرهم في أموالهم زوال الملكية وانتقالها الى الورثة فقد أصبح مالهم.
والصنف الثاني: غير المستحقين، وهؤلاء هم الذين وضعوا أيديهم على هذه الأموال بدون وجه حق، كما حدث مع أموال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد وضع أبو بكر يده عليها وصادرها بدون وجه حق من مستحقيها، أي: بضعته النبوية فاطمة (عليها السلام)، وإلاّ فأبي بكر قد ترك لنفسه ما خصه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أرض، بني النضير مثلما نحل ابنته فاطمة (عليها السلام).
فقد روى الزهري قائلاً: (أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقطع لأبي بكر، وعمر، وسهل، وعبد الرحمن بن عوف، أموالاً من أموال بني النضير عامرة)[2].
وأبقى ابنته عائشة وحفصة وغيرهنّ في بيوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أقطعه لأبي بكر وعمر من أرض بني النضير يورِّث، وفيما نحل ابنته من أرض فدك، لا يورِّث؟!
4 ـ إنَّ الالتفاف على الأحكام وتحريفها عن مواضعها التي وضعها الله عزّ وجل فيها، يدفع الى التخبط والافتضاح، كما هو حال من وقفوا الى جانب من ظلم بضعة النبوة (عليها السلام) وأغضبها وآذاها حتى لحقت بربها صابرة محتسبة شهيدة. وقد أوصت بأن لا يشهد أبو بكر ومن آزره وأعانه على ظلمها جنازتها والصلاة عليها أو الوقوف على قبرها (عليها السلام)، وما قول الجصاص في تغيير مدار الحكم في الآية بقوله:
(وأنه إنما خاف على أن يستولي بنو أعمامه على علومه وكتابه فيحرفونها ويستأكلون بها فيفسدون دينه ويصدون الناس عنه) إلا شاهد على تكبله بقيود الأنساق الثقافية والموروث العقدي.
ومن ثم فهنا جملة من الاستفهامات، وهي على النحو الآتي:
أ ـ إنَّ الخوف على الدين والشريعة والكتاب من التحريف لم يقتصر على نبي الله زكريا (عليه السلام) فجميع الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) -لاسيما أُولُو العزم- خائفون على دينهم، بل كان سيدهم أجمعين (صلى الله عليه وآله وسلم) أشدهم خوفاً على دينه وكتابه وشريعته.
ومن ثم: فأين التخصيص في الآية الذي يخرج جميع الأنبياء والمرسلين من خوفهم.
ب ـ ألم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خائفًا من أن يستولي بعض أصحابه على علومه وكتابه فخاطبهم وهو على فراش المرض يناديهم:
«أتوني بالكتف والدواة»، فقالوا:
إنّ رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] يهجر[3]؟!! -والعياذ بالله-.
وفي لفظ البخاري، عن ابن عباس:
(اشتد برسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] وجعه يوم الخميس، فقال:
«ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً».
فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هجر رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم]!!قال:
«دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه»[4].
وفي لفظ مسلم النيسابوري، عن ابن عباس:
(لـمّا حضر رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] -قالوا-: (قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول: ما قال عمر: فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] قال رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم]: «قوموا».
قال عبد الله: فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية كل الرزيّة ما حال بين رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم)[5].
وقد روى ابن سعد (ت 230هـ) تأثر أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا اللغط وما ادخلوه من الأذى على رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] وتأنيب عمر لهنّ وتقريعه إياهنّ، فيروي ذلك قائلاً:
(كنا عند النبي [صلى الله عليه وآله وسلم] وبيننا وبين النساء حجاب، فقال رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم]:
«اغسلوني بسبع قرب وآئتوني بصحيفة ودواة اكتب لكن كتاباً لن تضلوا بعده أبدًا».
فقال النسوة: ائتوا رسول الله بحاجته؟!
قال عمر: فقلت، أُسكتهن فإنكنّ صواحبه إذا مرض عصرتن أعينكنّ، وإذا صح أخذتنَّ بعنقه؛ فقال رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم]:
«هنَّ خير منكم»[6].
ج ـ ألم يُحذّر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من فتنة بعض أصحابه وخطرهم على دينه وأُمته بأشد مما كان يخافه نبي الله زكريا، لذا كان خوف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الإسلام والمسلمين بما يتناسب مع عظمة دينه وتفضيله على سائر الأديان، وبما يوازي مستوى الأخطار التي تحيط به لا سيما من بعض أصحابه الذين كانوا أشد فتنة على الأمة من فتنة الدجال؛ وهو ما صرّح به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:
«لفتنة بعضكم أخوف عندي من فتنة الدجال»[7]؟!!
د ـ ألم يحذّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من انقلاب بعض الصحابة وارتدادهم وتبديلهم في دينه وأحداثهم المحدثات فيه فلا يبقى منهم، «إلّا مثل همل النعم» فيساقون الى النار، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينادي خلفهم:
(يا رب أصحابي)؟!!، فيقال:
«إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [سورة المائدة/117].
فيقال: إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)[8].
فأي استيلاء أعظم (على علومه وكتابه فيحرفونها ويستأكلون بها فيفسدون دينه ويصدون الناس عنه) من هذا الاستيلاء، وأي خوف أعظم، أخوف زكريا أم خوف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! فقد بدلوا دينه، وسلبوا بضعته، وقتلوا أهل بيته (عليهم السلام)؟!! فلماذا لم تخصص آيات الإرث في القرآن بأنه الخوف على الدين؟!![9]
الهوامش:
[1] أحكام القرآن: ج3 ص 283.
[2] شرح السِيّر للسرخسي: ج2 ص611.
[3] صحيح مسلم، باب: الأمر بقضاء النذر: ج5 ص76.
[4] صحيح البخاري، باب: دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الى الإسلام: ج4 ص31.
[5] صحيح مسلم، باب: الأمر بقضاء النذر: ج5 ص76.
[6] الطبقات الكبرى: ج2 ص 244 نهاية الأرب للنويري: ج18 ص 375.
[7] مسند أحمد بن حنبل: ج5 ص 389؛ صحيح ابن حبان: ج15 ص 218.
[8] صحيح البخاري، كتاب التفسير: ج5 ص 240.
[9] لمزيد من الاطلاع ، ينظر : معارضة حديث لا نورث للقرآن والسنة واللغة ، السيد نبيل الحسني : ص128 – 134، إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة / العتبة الحسينية المقدسة ، ط1 لعام 2022م