الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام في وصف الدنيا قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله

مقالات وبحوث

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام في وصف الدنيا قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 21-12-2022

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
فأن مما ورد في نهج البلاغة حول الدنيا أنه عليه السلام ذكرها في خطبة يصف فيها حال الدنيا قبل بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقول:
أَرْسَلَه عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الأُمَمِ، واعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ، وانْتِشَارٍ مِنَ الأُمُورِ وتَلَظٌّ مِنَ الْحُرُوبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ ، عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وإِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا واغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا،  قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الْهُدَى وظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأَهْلِهَا عَابِسَةٌ فِي وَجْه طَالِبِهَا ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ، وطَعَامُهَا الْجِيفَةُ وشِعَارُهَا الْخَوْفُ ودِثَارُهَا السَّيْفُ[1]

شرح الألفاظ الغريبة:
الفترة: ما بين زمان الرسالة؛ الهجعة: النومة؛ اعتزام: من قولهم: اعتزم الفرس، إذا مر جامحاً؛ تَلَظَّ: أي تَلَهبَ؛ اغورار الماء: ذهابه؛ متجهّمة: من تجهّمه: أي استقبله بوجه كريه؛ ثَمَرُها الفتنة: أي ليست لها نتيجة سوى التن؛ الجيفة: إشارة إلى أكل العرب للميتة من شدّة الاضطرار؛ الشعار من الثياب: ما يلي البدن؛ الدثار: فوق الشعار[2]

 شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني:
صورة هذا الفصل تذكيرهم بنعمة الله تعالى التي نفت ما كانوا فيه من بؤس، وهي بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وما استلزمه من الخيرات؛ ليعتبروا فيشكروا ويخلصوا التوجه إلى الله تعالى، فأشار أولاً إلى النعمة المذكورة، ثمّ أردفها بالأحوال المذمومة التي تبدّلت بتلك النعمة الجسيمة وعدّ منها أموراً:
أحدها: ((الفترة من الرسل)): وظاهر أن خلوّ الزمان عن رسول فيه يستلزم وجود الشرور ووقوع الهرج والمرج وتلك أحوال مذمومة يلحق ذلك الزمان بها من الذم بمقدار ما يلحق زمان الرسول صلى الله عليه وآله  من المدح.

الثاني: ((طول الهجعة من الأُمم)): وكنّى بالهجعة عن الغفلة في أمر المعاد وسائر المصالح التي ينبغي.
الثالث: ((الاعتزام من الفتن)): أمّا على الرواية الأُولى: فنسبة العزم إلى الفتن مجاز كنّي به عن وقوعها بين الخلق المشبه لقصدها إيّاهم.
وعلى الرواية الثانية: أي على كثرة من الفتن.
وعلى الرواية الثالثة: فالمعنى أنّ الفتن لمّا كانت غير واقعة على قانون شرعيّ، ولا نظام مصلحيّ، ولذلك سميت فتنة؛ لاجرم أشبهت المعترض في الطريق من الحيوان الماشي على غير استقامة ولذلك استعير لها لفظ الاعتراض.

الرابع: ((وعلى انتشار من الأُمور)): أي تفرق أمور الخلق وأحوالهم وجريان أفعالهم على غير قانون عدليّ.

الخامس: ((التلظّي من الحروب)): وقد سبق تشبيه الحرب بالنار؛ فلذلك أسند إليها التلظي على سبيل الاستعارة وكنّى بها عن هيجانها ووجودها بينهم زمان الفترة.

السادس: ((والدنيا كاسفة)): والواو للحال: أي كاسف نورها، ونور الدنيا كناية عن وجود الأنبياء، وما يأتون به من الشرائع، وما ينتج عنهم من الأولياء والعلماء كناية بالمستعار.
ووجه المشابهة: ما يستلزم النور ووجود الأنبياء والشرائع من الاهتداء بهما، ورشّح تلك الاستعارة بذكر الكسوف وعبّر به عن عدم ذلك النور منها ملاحظة لشبهها بالشمس.

السابع: ((ظاهرة الغرور)): أي كلّ قد اغترّ بها وانهمك في مشتهياتها وخدعته بخوادعها.

الثامن: كونه ((أرسل على حين إصفرار من ورقها، وإياس من ثمرها، واغورار من ماءها)): استعار لفظ الثمرة والورق لمتاعها وزينتها ولفظ الإصفرار لتغيّر تلك الزينة عن العرب في ذلك الوقت، وعدم طلاوة عيشهم إذن وخشونة مطاعمهم كما يذهب حسن الشجرة بإصفرار ورقها فلا يتلذذ بالنظر إليها.
وعنى بالإياس من ثمرها: انقطاع آمال العرب إذن من الملك والدولة وما يستلزمه من الحصول على طيّبات الدنيا.
وكذلك استعار لفظ الماء لموادّ متاع الدنيا وطرق لذاتها، ولفظ الاغورار لعدم تلك الموادّ من ضعف التجارات والمكاسب، وعدم التمليك للأمصار وكلّ ذلك لعدم النظام العدليّ بينهم وكلّها استعارات بالكناية.
ووجه الاستعارة الأُولى: أنّ الورق كما أنّه زينة للشجرة وبه كمالها كذلك لذّات الدنيا وحياة الدنيا وزينتها.
ووجه الثانية: أنّ الثمر كما أنّه مقصود الشجرة غالباً وغايتها، كذلك متاع الدنيا والانتفاع به هو مقصودها المطلوب منها لأكثر الخلق.
ووجه الثالثة: أن الماء كما أنّه مادة الشجر وبه حياتها وقيامها في الوجود كذلك مولود تلك اللذّات هي المكاسب والتجارات والصناعات، وقد كانت العرب خالية من ذلك ووجوه باقي الاستعارات ظاهرة.

التاسع: ((دُرُوسُ أَعْلَامِ الهُدَى)): وكنى بأعلام الهدى من أئمة الدين، وكتبه التي بها يهتدي لسلوك سبيل الله، وبدروسها عن موت أولئك وعدمهم كناية بالمستعار كما سبق.

العاشر: ((ظُهُورُ أَعْلامُ الرَّدى)) وهم أئّمة الضلال الداعين الى النار.

الحادي عشر: كون الدنيا ((مُتَجَهِّمةً لأهْلهَا، عَابِسَةٌ في وجوهِ طُلَّابِها)): وكنّى بذلك عن عدم صفائها، فإنّ طيب العيش في الدنيا إنما يكون مع وجود نظام العدل والتصفية بين أهلها وعدم التظالم وذلك في زمان الفترة مفقود بين العرب، وهو كناية بالمستعار.
ووجه المشابهة: ما يلزمه المستعار عنه وله من عدم تحصيل المطلوب معهما.

الثاني عشر: كون ((ثَمَرِها الفِتْنَةَ)): أي غاية سعيهم فيها على خبط في ظلمات جهلهم إنما هو الفتنة: أي الضلال عن سبيل الله والتيه في ظلمات الباطل. وغاية كل شيء هو مقصود فتشبه الثمرة التي هي مقصود الشجرة؛ فلذلك استعير لها لفظها.

الثالث عشر: ((وطَعَامُهَا الجِيفَةُ)): يحتمل أن يكون لفظ الجيفة هنا مستعاراً لطعام الدنيا ولذاته.
ووجه المشابهة: أنه لما كانت الجيفة عبارة عمّا أنتن وتغيرت رائحته من جثة حيوان ونحوها فخبث مأكله ونفر الطبع عنه، كذلك طعام الدنيا ولذاتها في زمان الفترة أكثر ما يكون من النهب والغارة والسرقة ونحوهما مما يخبث تناوله شرعاً وينفر العقل منه  وتأباه كرائم الأخلاق؛ فأشبه ما يحصل من متاعها إذن الجيفة في خبثها وسوء  مطعمها، وإن كان أحد الخبيثين عقلياً والآخر حسياً فاستعير لفظها له. ويحتمل أن يكنى بالجيفة عما كانوا يأكلون في الجاهلية من الحيوان غير مذكى وهو ما حرمه القرآن الكريم من ذلك في قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ﴾[3]: أي المضروبة بالخشب حتى تموت ويبقى الدم فيها فيكون أطيب كما زعم المجوس، والمتردية: أي التي تردت من علو فماتت.
فإن كل ذلك إذا مات فكثيراً ما يتعفن ويؤكل؛ فيصدق أن طعامهم كان الجيفة.

الرابع عشر: ((شعارها الخوف)).
الخامس عشر: كون ((دثارها السيف)): استعار لفظي الشعار للخوف والدثار للسيف.
ووجه ال استعارة الأولى: أن الخوف وإن كان من العوارض القلبية إلا أنه كثيراً ما يستتبع اضطراب البدن وانفعاله بالرعدة، فيكون شاملاً له شمول ما يتخذه الإنسان شعاراً.
ووجه الثانية: أن الدثار والسيف يشتركان في مباشرة المدثر والمضروب من فوقهما[4] )([5]).

الهوامش:
[1] نهج البلاغة لصبحي صالح: 121- 122/ خطبة رقم 89، وفي نهج البلاغة للمحقق الشيخ العطار: 155-156/ خطبة رقم 88، شرح نهج البلاغة لابن ميثم 2: 309/ خطبة رقم 86، نهج البلاغة للشيخ محمد عبده: 170-171.
[2] شرح الألفاظ الغريبة لصبحي صالح: 598، وشرح النهج لابن ميثم 2: 310.
[3] المائدة: 3.
[4] شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 2: 310-313/ شرح خطبة رقم 86.
([5]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 66-71.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2370 Seconds