بقلم: الدكتور خليل خلف بشير
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
لم يكن الدعاء وسيلة لإظهار التعبد والتذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى فحسب بل أنه يحمل معاني عديدة منها: الاثار التربوية لدعاء كميل رحمه الله فمن أدعية ليلة الجمعة الدعاء الذي علّمه أمير المؤمنين لكميل بن زياد والذي عُرف باسمه (دعاء كميل)، وفيه يتوسل الداعي بأربعة وسائل هي :[1]
1- سابق فضل الله وكرمه وبره بعبده فإذا كان في عمل العبد وجهده عجز وقصور يحجبانه عن الله فإن سابق فضله تعالى ورحمته بعبده يشفع للعبد إلى الله، وهو دليل على حب الله لعبده، وهذا الحب الإلهي هو الوسيلة التي يقدمها العبد بين يدي حاجاته إلى الله فإذا كان لا يستحق رحمة الله تعالى فإن حب الله تعالى له يؤهله لرحمته وفضله، ويضعه في موضع الإجابة إذ يقول الإمام في هذه الوسيلة ((يا من بدأ خلقي وذكري وتربيتي وبري وتغذيتي، هبني لابتداء كرمك وسالف برك بي)) [2] فقد بدأنا بالبر والذكر والخلق والتربية قبل أن نسأله ذلك كله ودون أن نستحقه.
2- حبنا له، وهو وسيلة ناجحة ومؤثرة عند الله تعالى كحبه لنا فإن للحب قيمة كبيرة لا تضاهيها قيمة عند الحبيب، ومهما شككنا في شيء فلا نشك في حبنا لله تعالى ولأوليائه، وفي سياق هذه الوسيلة يأتي توحيدنا له تعالى وخشوعنا بين يديه وصلاتنا وسجودنا وشهادتنا واعترافنا له بالربوبية، وعلى أنفسنا بالعبودية على أنّ الحب والتوحيد بضاعتان لا يردهما الله تعالى ومهما شككنا في شيء فلا نشك ولا نتردد لحظة واحدة في هذا ولا ذاك، وفي ذلك يقول الإمام (عليه السلام): ((أتراك معذبي بنارك بعد توحيدك وبعد ما انطوى عليه قلبي من معرفتك ولهج به لساني من ذكرك واعتقده ضميري من حبك وبعد صدق اعترافي ودعائي خاضعا لربوبيتك ... وليت شعري يا سيدي وإلهي ومولاي ! أتسلط النار على وجوه خرت لعظمتك ساجدة وعلى ألسن نطقت بتوحيدك صادقة وبشكرك مادحة وعلى قلوب اعترفت بإلهيتك محققة وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبدك طائعة وأشارت باستغفارك مذعنة، ما هكذا ؤ الظن بك ولا أخبرنا بفضلك عنك يا كريم))[3].
3- ضعفنا عن تحمل العذاب، ورقة جلودنا، ودقة عظامنا، وقلة صبرنا، والضعف وسيلة ناجحة إلى القوي المتين، وفي كل ضعف ما يجذب القوي، ويستعطفه، ويكسب عطفه ورحمته كما في قوله ((يا رب ارحم ضعف بدني ورقة جلدي ودقة عظمي، ... وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها وما يجري فيها من المكاره على أهلها، على أن ذلك بلاء ومكروه قليل مكثه يسير بقاؤه قصير مدته، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة وجليل وقوع المكاره فيها وهو بلاء تطول مدته ويدوم مقامه ولا يخفف عن أهله لأنه لا يكون إلا عن غضبك وانتقامك وسخطك وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض، يا سيدي فكيف لي وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين))[4]،وفي مناجاة أخرى له (عليه السلام) يقول : ((مولاي يا مولاي أنت القوي وأنا الضعيف وهل يرحم الضعيف إلا القوي))[5] .
4- اضطرار العبد إلى الله، وهي أيضاً وسيلة ناجحة فلا يجد الإنسان حاجته إلا عند مولاه ولا يجد مهرباً إلا إليه ولا ملجأً إلا عنده، وهذا شبيه بالطفل الصغير الذي لا يرى في عالمه الصغير غير أمه وأبيه فهما المسؤولان عن حمايته وقضاء حاجاته وتلبية رغباته وطلباته، وهما اللذان يمنحانه الرحمة والعطف والحنان والرأفة والشفقة والأمن فإذا ارتكب ا يستحق العقوبة منهما وخافهما على نفسه التفت يميناً ويساراً فلم يجد من يلجأ إليه فيلجأ إليهما، ويلقي بنفسه في أحضانهما مستغيثاً بهما، وهما يريدان مؤاخذته وعقوبته فكذاك العبد المذنب لا يجد من يلجأ إليه سوى خالقه وبارئه ومصوره وراحمه مع علمه بأنه يريد عقوبته كما في قول الإمام (عليه السلام) : ((فبعزتك يا سيدي ومولاي أقسم صادقا لئن تركتني ناطقا لأضجن إليك بين أهلها ضجيج الآملين ولأصرخن إليك صراخ المستصرخين ولأبكين عليك بكاء الفاقدين ولأنادينك أين كنت يا ولي المؤمنين ! يا غاية آمال العارفين! يا غياث المستغيثين! يا حبيب قلوب الصادقين! ويا إله العالمين! أفتراك سبحانك يا إلهي وبحمدك تسمع فيها صوت عبد مسلم يسجن فيها بمخالفته وذاق طعم عذابها بمعصيته وحبس بين أطباقها بجرمه وجريرته، وهو يضج إليك ضجيج مؤمل لرحمتك ويناديك بلسان أهل توحيدك ويتوسل إليك بربوبيتك، يا مولاي فكيف يبقى في العذاب وهو يرجو ما سلف من حلمك أم كيف تؤلمه النار وهو يأمل فضلك ورحمتك أم كيف يحرقه لهبها وأنت تسمع صوته وتري مكانه أم كيف يشتمل عليه زفيرها وأنت تعلم ضعفه أم كيف يتغلغل بين أطباقها وأنت تعلم صدقه أم كيف تزجره زبانيتها وهو يناديك يا ربه أم كيف تنزله فيها وهو يرجو فضلك في عتقه منها فتتركه هيهات ما ذلك الظن بك ولا المعروف من فضلك ولا مشبه لما عاملت به الموحدين من برك وإحسانك،...))[6].
وهذا يدلّ على أدب الأئمة - ومنهم أمير المؤمنين - مع خالقهم فهم عنوان المؤمنين، ومؤدبو البشرية، وسادات المؤمنين، ارتضعوا من ثدي الرسالة ودرجوا في بيت الوحي والتنزيل، ومنهم نتعلم الآداب والأخلاق والفضيلة، وقد اختطوا منهجاً واضحاً، وطريقاً لاحباً في أدب الدعاء والمناجاة[7]،ولعل خير دليل على ذلك تكراره عليه السلام كلمة (اللهم) [8]في أدعيته المباركة والتي تُلمع إلى شدة تقرب العبد إلى ربه، وتفسّر حالة انقطاع العبد إلى خالقه فتستقر النفس وتأنس باللطف والعناية الإلهية؛ لأنّ خالقها يسمع دعاءها، ويلبي نداءها فهو القائل ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾- البقرة /186 على أنّ هذه الأدعية بمجموعها تمثل مدرسة ومنهاجاً عملياً تطبيقياً يعيشه الإنسان، وتربيه على مخاطبة خالقه وتعرّفه صفاته ونعمه وعطاياه، وتحثه على الورع والتقوى والتوبة والإنابة ومكارم الأخلاق وترويض شهوات النفس، وتعرّفه الأعمال الصالحة والسلوك الشرعي الراقي، وتكشف وسائل الشيطان ومداخله التي يدخل منها إلى الإنسان[9]، لذا يعد الدعاء نوعاً من الممارسات الوجدانية، ويفترق عن غيره من سائر أنواع التعبير الفني بكونه يجسد تجربة داخلية يتكفل بصياغتها المشرع الإسلامي ويقدمها ليتمثلها الداعي وكأنها من نتاج ذاته[10] )[11].
الهوامش:
[1]- ينظر : الدعاء عند أهل البيت 141- 149.
[2]- مصباح المتهجد 846.
[3]- مصباح المتهجد: 846.
[4]- المصدر نفسه/ 846-847.
[5]- بحار الأنوار97/419.
[6]- مصباح المتهجد 848.
[7] - ينظر : منهج الدعاء عند أهل البيت 38-39.
[8] - من ذلك : الخطب 25، 72، 91، 106، 115، 143، 172، 193، 206،وغيرها.
[9] - ينظر : دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة 2/420.
[10] - ينظر : الإسلام والفن / د.محمود البستاني170.
[11]لمزيد من الاطلاع ينظر: من النتاج الفكري لأمير المؤمنين عليه السلام تفسيره المغيب للقرآن الكريم وادعيته العلوية للدكتور خليل خلف بشير، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 137-141.