بقلم : السيد نبيل الحسني الكربلائي.
قال الحافظ القرطبي في تفسير قوله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} وقوله عزّ وجل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}، وهو:
(قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة، فأشفق أن يرثه غير الولد؛ وقالت طائفة: إنما كان مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب وليا يقوم بالدين بعده، حكى هذا القول الزجاج، وعليه فلم يسل من يرث ماله، لأن الأنبياء لا توّرث؛ وهذا هو الصحيح من القولين في تأويل الآية، وأنه عليه الصلاة والسلام أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال، لما ثبت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «إنا معشر الأنبياء لا نورِّث ما تركنا صدقة» وفي كتاب أبي داود: «إنّ العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورِّثوا دينارا ولا درهما وورثوا العلم». وسيأتي في هذا مزيد بيان عند قوله: «يرثني».
الثانية: هذا الحديث يدخل في التفسير المسند، لقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [سورة النمل/16].
وعبارة عن قول زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} وتخصيص للعموم في ذلك، وأن سليمان لم يرث من داود مالا خلفه داود بعده، وإنما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب، هكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض.
وإلا ما روى عن الحسن أنه قال: «يرثني» مالا «ويرث من آل يعقوب» النبوة والحكمة، وكل قول يخالف قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو مدفوع مهجور، قاله أبو عمر.
قال ابن عطية: والأكثر من المفسرين على أن زكريا إنما أراد وراثة المال، ويحتمل قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنا معشر الأنبياء لا نورِّث» ألا يريد به العموم، بل على أنه غالب أمرهم، فتأمله.
والأظهر الأليق بزكريا (عليه السلام) أن يريد وراثة العلم والدين، فتكون الوراثة مستعارة. ألا ترى أنه لما طلب وليا ولم يخصص ولدا بَلَّغَه الله تعالى أمّلَهُ على أكمل الوجوه. وقال أبو صالح وغيره: قوله «من آل يعقوب» يريد العلم والنبوة)[1].
أقول:
1- إنَّ ما يمتاز به هذا القول هو التصريح بالنسق الثقافي الذي يسير ضمنه أعلام أهل السُنَّة، ومنهم القرطبي، فقال:
(إنَّ سليمان لم يرث من داود مالًا خلّفه داود بعده، وإنما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب، هكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض).
فإن النص كاشف عن تضافر (أهل العلم بتأويل القرآن) على هضم بضعة النبوة وصفوة الرسالة (صلوات الله وسلامه عليها)!!.
وإن الاستثناء بقوله (ما عدا الروافض) هم: فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، فهم من خالف أهل سُنّة الشيخين الذين بدلوا أحكام الله تعالى في حكم التوارث بين الأنبياء (عليهم السلام) وتبعهم في هذا القول شيعتهم ومن والاهم، ومن ثم فشيعة أهل البيت عليهم السلام الذين وسمهم القرطبي بـ (الروافض) لا يبالون بما قاله أهل سُنّة الشيخين بعد ثبوته في القرآن والسُنَّة النبوية، ممثلة بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته أهل بيته (عليهم السلام) الذي من تمسك بهم نجى ومن تخلف عنهم ضل وغوى.
2- قوله (وكل قول يخالف قول النبي [صلى الله عليه وآله وسلم] فهو مدفوع مهجور)، فهذا غير صحيح ولم يعمل به بعض الصحابة وقد خالفه أسلاف القرطبي كابرا عن كابر، فأول المخالفين كان الصحابة الذين حضروا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه وقد طلب منهم أن يأتوه بقرطاس ودواة ليكتب لهم كتاباً لن يَضلّوا من بعده، فخالفوا قوله ودفعوه وهجروه، بل واتهموه (صلى الله عليه وآله وسلم) -والعياذ بالله- بالهجر، وقد تضافرت الصحاح برواية رزية يوم الخميس التي أقرنها عبد الله بن عباس بدموع عينه حتى بلَّ دمعه الحصى.
ولو أردنا أن نتتبع مخالفة كبار الصحابة لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لخرج الكتاب عن عنوانه.
3- إن الملاحظ أيضاً في قول القرطبي هو التناقض والتعارض في الشواهد والقرائن والأقوال، فمرة يدافع عن سُنّة أبي بكر في خصومته لبضعة النبوة (عليها السلام) ويصحح فعله ويعارض ما صرّح به القرآن من توارث الأنبياء (عليهم السلام) في الأموال والأملاك، ومرة يتحامل على بيت النبوة وأئمة العترة (عليهم السلام) الذين أجمعوا على أن الأنبياء يتوارثون في أموالهم، فينعتهم بلفظ: (الروافض).
وأخرى يتراجع عن ذلك ويعارض ما أورده من أقوال لأعلام أهل السُنَّة في حصر الوارثة بالعلم والنبوة وأمور الدين، سوى المال فهو ممنوع بينهم، فيقول:
(قال ابن عطية: والأكثر من المفسرين على أن زكريا إنما أراد وراثة المال) وعليه: فقد أصبح (أكثر المفسرين) من الروافض لأنهم يقولون بوراثة المال في الآية وغيرها.
4- التراجع عن الاستدلال بحديث (لا نورِّث) في منع النبوة للمال، فقال:
(ويحتمل قول النبي [صلى الله عليه وآله وسلم]: (إنّا معاشر الأنبياء لا نورِّث) ألا يريد به العموم، بل على أنه غالب أمرهم، فتأمله)!!
والسؤال المطروح: أفيكون شرع الله يجري على بعض الأنبياء ولا يجري على البعض الآخر، فمنهم من يورِّث المال والملك، ومنهم من لا يورِّث؟!!
وعلى أي شريعة منع أبو بكر فاطمة (عليها السلام) من أن ترث أباها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
سوى شريعة تضافر الأمة على هضم بضعة النبوة كما كشف أمير المؤمنين عليه وعليها وولدهما السلام في خطابه لرسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال:
«وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك عليَّ وعلى هضمها حقها ، فاستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا وستقول ، ويحكم الله وهو خير الحاكمين»[2] . [3]
الهوامش:
[1] الجامع لأحكام القرآن: ج11 ص 78.
[2] الأمالي ، الشيخ المفيد : ص282
[3] لمزيد من الاطلاع ، ينظر : معارضة حديث لا نورث للقران والسُنّة واللغة ، السيد نبيل الحسني : 171/175 ، إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة التابعة للعتبة الحسينية المقدسة ، ط1 دار الوارث كربلاء المقدسة - 2021م