بقلم: د. جليل منصور العريَّض
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
اولى المسلمون الكتابة اهتماماً بالغاً، ففي صدر الإسلام وعلى عهد الرسول صلى الله عليه وآله باشر كثير من الصحابة الكتابة بين يديه، فقد كان «علي بن أبي طالب عليه السلام وعثمان بن عفان يكتبان الوحي، فإن غابا كتبه أبي بن كعب وزيد بن ثابت، وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتبان بين يديه في حوائجه»[1].
ولأهمية الكتابة والكتب في الفكر الإسلامي، أفردت كتب الأدب أبواباً خاصة لدراسة أحكام تلك الصناعة وأهميتها وأثرها في العام والخاص من جمهور الناس[2]، كما انفردت كتب خاصة أخرى بأدب الكتاب ومعالجة أساليب الكتابة، إلى غير ذلك من أمور أسلوبية ولغوية وبلاغية تتعلق بشؤون المهنة[3]، إذ يبدو أنه كان للكتّاب عندهم «احكام بينة كأحكام القضاة، يعرفون بها وينسبون إليها ويتقلدون سياسة الملك بها»[4] ومن أشهر رسائل الأدب العربي التي عرضت للكتاب وشؤونهم «رسالة عبد الحميد بن يحي الكاتب»[5] (ت 132 هـ) الشهيرة، وقد عرض فيها لكل ما يتعلق بالكتاب من آداب، بحيث عدت دستوراً متكاملاً للكتّاب من حيث المضمون والشكل. وإذا ما نحن رجعنا إلى بلاغة عبد الحميد الكاتب فإنها ـ على ما نعتقد ـ رافد من روافد بلاغة علي عليه السلام فقد قيل لعبد الحميد «ما الذي مكنك من البلاغة، وخرجك فيها؟ فقال: حفظ كلام الأصلع، يعني أمير المؤمنين عليه السلام»[6]. لذلك فلا عجب أن تأتي رسالته إلى الكتّاب ـ كما نتصورها ـ عبارة عن شرح مفصل لما عرضه علي عليه السلام من فكر عن مهنة الكتابة وأهميتها، وما يجب أن يتصف به الكتّاب من مواصفات والأسس التي ينبني عليها اختيارهم. مع الوضع في الاعتبار أن علياً عليه السلام «من أهل هذه الصناعة»[7] إذ لم يقتصر عمله الكتابي في عهد الرسول صلى الله عليه وآله على كتابة الوحي، بل زاول أيضاً كتابة العهود. فهو كما تحدثنا كتب السير والتاريخ ـ الذي كتب معاهدة صلح الحديبية[8] بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وعليه فإن ما جاء في عهده للأشتر بشأن الكتاب نابع من تجربة واقتناع تام بمكانة الوظيفة. فوضع شرط الأخلاق الفاضلة على رأس شروط اختيار الكتاب[9] لما يحسه من شعور بأهمية مركزهم الذي يدخل ضمنه اسرار الدولة ومصالحها العامة، وكيفية التواصل بين القيادة والمصالح في طول البلاد وعرضها[10]، إلى غير ذلك من مهام بالغة في الدقة، لا يؤتمن عليها سوى الكتاب الشرفاء، الذين يعول على إخلاصهم، لشعورهم بأنهم ينطقون بلسان الحكومة في كل ما يصدر عنهم من قريب أو بعيد[11]. ومن مميزات المؤهل للوظيفةـ في فكر علي عليه السلام ـ هو من يكون «ممتنا بكرامة»[12] من يعمل في خدمته، متجنباً الاجتراء عليه في خلاف حول موضوع ما «بمحضر ملأ»[13].
ومن يكون ذكيا نبيها لا يغفل أو يتساهل في مراجعة مكاتبات العمال «وإصدار جواباتها على الصواب»[14] بما يتماشى والسياسة التي يرسمها له ولي الأمر.
من يكون حازماً، ذا خبرة تامة بأساليب الكتابة التي لا يدخلها الخلل من حيث المنافذ القانونية، ولديه قدرة فائقة في التحكم بأساليب اللغة فلا «يضعف عقدا اعتقده ولا يعجز»[15] عن حل عقد يرى فيه مضرة لأمته وإمامه.
من يكون عارفاً بقدر نفسه، واثقاً من مقدرته على إداء ما يناط به من مهام كتابية، معتقداً بعلو مكانته عند من يباشر خدمته «لأن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل»[16].
وتلك الشروط في مجملها تعني ـ عند الإمام علي عليه السلام ـ عدم الاعتماد على الفراسة وحسن الظن أثناء اختيار الكتاب، لأن التصنع والتظاهر بما ليس في الطباع من الأساليب التي يتبعها كثير من البشر للوصول إلى غاياتهم[17]، لذلك فمن واجب المسؤول، وقبل ترشيحه مثل أولئك الذين يرغبون في الالتحاق بالخدمة، أن يباشر أولاً بدارسة ماضيهم الوظيفي واختيارهم بناء على «ما ولوا للصالحين»[18]قبله، لأنه بذلك يتمكن من توظيف «أحسنهم كان في العامة أثرا وأعرفهم بالأمانة وجهاً»[19].
ولضبط الجهاز الوظيفي في الدولة ضبطاً حكيماً، يجب تحديد المسؤوليات بتعيين رئيس لكل شعبة، ويكون ذلك الرئيس ذا شخصية قوية متمرساً في وظيفته «لا يقهره كبيرها ولا يشت عليه كثيرها»[20]، وبذلك يضمن نجاح الجهاز الوظيفي وتتجنب الدولة ما لا يحمد عقباه)[21].
الهوامش:
[1] الجهشياري: الوزراء والكتاب ص 12.
[2] راجع على سبيل المثال موضوع «ادوات الكتابة والكتاب» عند: ابن عبد ربه ـ العقد الفريد 4/155 وما بعدها، وراجع أيضاً الجهشياري السابق ـ مقدمة الكتاب ص 1 وما بعدها وابن النديم ـ الفهرست ص 7، وما بعدها.
[3] من اشهر الكتب: أدب الكاتب لابن قتيبة، والاقتضاب في شرح أدب الكتّاب ـ للبطليوسي (ت 521 هـ).
[4] العقد الفريد 4/160.
[5] للاطلاع على نص الرسالة راجع الجهشياري، السابق ص 73 وما بعدها.
[6] السابق ص 82.
[7] العقد الفريد: 4/161.
[8] راجع على سبيل المثال: ابن هشام ـ السيرة 3/331، تاريخ الطبري 2/632، وقد عرضنا لصلح الحديبية في ص 142 الهامش (2) من هذا البحث.
[9] راجع رسائل 53، فقرة 23.
[10] المصدر السابق نفسه.
[11] المصدر السابق نفسه.
[12] المصدر السابق نفسه.
[13] المصدر السابق نفسه.
[14] المصدر السابق نفسه.
[15] المصدر السابق نفسه.
[16] المصدر السابق نفسه.
[17] المصدر السابق
[18] المصدر السابق.
[19] المصدر السابق.
[20] المصدر السابق.
[21] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 352-355.