بقلم: د. جليل منصور العريَّض
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
إن المتأمل فيما أثر عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام يرى أن بيت المال في أثناء خلافته كان مقسماً على أقسام ثلاثة هي:
الأول: ديوان الزكاة: وهو مؤسسة مالية قائمة بذاتها تختص بجمع الزكاة ثم توزيعها على مستحقيها بالعدل في جميع ارجاء الدولة الإسلامية تحت إشراف الخليفة واموال هذا الديوان لا يبقي علي عليه السلام منها شيئا لكونها من المنصوص عليه في القرآن الكريم.
الثاني: ديوان العطاء: وهو مؤسسة مالية قائمة بذاتها أيضاً استحدثت في عهد عمر بن الخطاب[1] ويدخل فيه أربعة أخماس[2] ما يجبى من الغنيمة[3]والفيء[4] وتقسم في الجند بالسوية[5]، وهو ما كان يتصرف فيه علي عليه السلام بإعطاء كل ذي حق حقه بالعدل بموجب ما يدخل فيه من مال وثمر وعسل وغيره من الصناعات. وجميع أموال هذا الديوان لا تدخل ضمن الصرف على مشاريع الدولة، لذلك يقوم علي عليه السلام بتقسيم جميع أمواله حتى لا يُبقي فيه شيئا.
الثالث: بيت المال: أو خزينة الدولة، ومن مهامه الصرف على ديوان الجند وما يتعلق بمشاريع الدولة من اصلاحات واعمار، ودفع مرتبات الولاة والقضاة والعمال وغيرهم من موظفي الدواوين. ومصادر هذا الديون خراج مالم يأخذه المسلمون من الكفار لا عنوة ولا صلحاً[6]، وبالإضافة إلى الخمس[7] الخامس من مال الفيء والغنيمة، وذبك بعد اقتطاع سهم ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل بحسب ما ورد في قوله تعلى:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾[8] مع ملاحظة ان سهم الرسول صلى الله عليه وآله قد دخل ضمن اختصاصات ولي الأمر القائم بشؤون الدولة، يصرفه حيث تقتضي مصلحة الإسلام. وبيت المال هذا هو ما يمكننا ان نطلق عليه ـ تجوزاًـ (وزارة المالية) وهو أيضاً ما يمكننا ان نستنتج منه سياسة علي عليه السلام المتعلقة بتصريف الشؤون المالية إبان حكمه.
فمما يبدو من عهده لمالك الأشتر أن ميزانية الدولة عنده مقسمة كالتالي:
أولا: الصرف على المشاريع العمرانية من طرقات وجسور وقنوات وتعهد للأراض. وقد وضع ذلك كشرط أساس في العهد[9]، مما يعني ضمنا أن العمران من أول واجبات الحكومة نحو البلاد.
ثانيا: إفراد ميزانية خاصة بالمؤسسة العسكرية[10]، يصرف منها على الجند ورجال الامن، مع توفير ما تحتاجه الدولة من عتاد وسلاح.
ثالثا: إفراد ميزانية خاصة لدفع مرتبات الموظفين، من قضاة وعمال ومراقبين وكتبة، وكل ما يتعلق بالدواوين الحكومية من خصوصيات[11].
رابعا: تخصيص ميزانية للصرف على العجزة والمسنين وذوي العاهات من مسلمين أو معاهدين يعيشون في كنف دولة الإسلام[12].
ثم ان فكر علي عليه السلام الاقتصادي لم تقتصر على جمع الأموال وصرفها بعد ذلك في وجوهها المستحقة، بل وضع في الاعتبارـ كما نعتقدـ ما يسمى في العصر الحديث بموازنة الداخل بالخارج، والحساب للمستقبل حتى تتجنب الحكومة أية ضائقة مالية، وتتفادى أية ازمة اقتصادية، وذلك انطلاقاً من فهمنا لقوله «ان من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ما يحرزها»[13]، أي أن من لم ينظر بعين العقل إلى المستقبل ولم يحسب لعواقب الأمور، لم يستطع ان يجنب نفسه اللجوء إلى الحاجة والوقوع في الكوارث. وعلى هذا الأساس يمكن ان يقال ـ فيما نظن ـ ان سياسة علي عليه السلام المالية بما تضمنت من افكار مثالية، فهي أيضاً مبنية على نهج علمي وتخطيط سليم، انطلاقاً من لا إسراف ولا تقتير امتثالاً لقوله تعالى:
﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾[14].)[15].
الهوامش:
[1] راجع أبا عبيد، السابق ص 236، وابن أبي الحديد 12/75.
[2] راجع يحي بن آدم: الخراج ص 18.
[3] الغنيمة: ما غلب عليه المسلمون بالقتال حتى يأخذوه ـ السابق ص 17.
[4] الفيء: ما صولحوا عليه دون قتال ـ السابق.
[5] راجع السابق ص 18.
[6] وهو ما هرب عنه أهله من مال وضياع، وتركوه من غير قتال، السابق ص17.
[7] يلاحظ هنا اختلاف المذاهب الإسلامية في سهم الرسول صلى الله عليه وآله من الخمس بعد وفاته «فذهب من يقول بميراث الأنبياء إلى انه موروث عنه مصروف إلى ورثته. وقال أبو ثور: يكون ملكاً للإمام بعده لقيامه بأمور الأمة مقامه، وقال أبو حنيفة: قد سقط لموته، وذهب الشافعي إلى ان يكون مصروفاً في مصالح المسلمين. والسهم الثاني سهم ذي القربى، زعم أبو حنيفة انه قد سقط حقهم منه اليوم، وعند الشافعي حقهم ثابت» الماوردي ـ الأحكام السلطانية ص 110، 111. ويتفق الشيعة الإمامية من وجهة النظر القائلة بتوريث نصيب الرسول صلى الله عليه وآله من الخمس لآل بيته عليهم السلام استناداً لقول جعفر الصادق عليه السلام «الخمس لنا فريضة» الحر العاملي ـ وسائل الشيعة 6/337. وهم إذ يقولون ذلك يعتقدون بعصمة الإمام مما يجعله يضع الخمس في صالح الإسلام وأهله، لذلك يرى الخميني في كتاب الحكومة الإسلامية ص 25 أن «الخمس مورد ضخم إنما هو من أجل تسيير شؤون الدولة الإسلامية، وسد جميع احتياجاتها المالية، وأن هذه الأموال الطائلة ليست لرفع حاجات سيد أو طالب علم... بل لسد احتياجات امة بأكملها» لكون الخمس من وجهة نظر الشيعة اوسع في مفهومه مما هو عند السنة، راجع صفحة 334 من هذا البحث وما بعدها.
[8] الأنفال /41.
[9] راجع رسائل 53 ـ الفقرة 1، 22.
[10] راجع السابق، الفقرات 17، 20، 21، 25.
[11] المصد السابق نفسه.
[12] المصدر السابق نفسه.
[13] رسائل 51، الفقرة الأولى.
[14] الاسراء /29.
[15] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 345-349..