من ألفاظ الزراعة وما يتعلق بها في نهج البلاغة: الزِّراعـة

مقالات وبحوث

من ألفاظ الزراعة وما يتعلق بها في نهج البلاغة: الزِّراعـة

922 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 04-05-2024

بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي

الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..

اما بعد:
جاءت ألفاظ الزراعة في كلام الإمام علي (عليه السلام) لتدل على: 
1) المعنى الحقيقي (المادي): وهو المعنى المادي الذي يدلُّ على زراعة الأرض بمختلف المحاصيل وجنيها للإستفادة منها، ورد المصدر مضافا الى ضمير الغائب (الهاء) مرة واحدة في كلام الإمام (عليه السلام)، وذلك قوله في إحدى الخطب المشتملة على الملاحم: «عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْيَابِهَا، وَمَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا، وَبَدَا مِنَ الاْيَّامِ كُلُوحُهَا، وَمِنَ اللَّيَالِي كُدُوحُهَا.  فَإِذَا يَنَعَ زَرْعُهُ، وَقَامَ عَلَى يَنْعِهِ، وَهَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ، وَبَرَقَتْ بَوَارِقُهُ، عُقِدَتْ رَايَاتُ الْفِتَنِ الْمُعْضِلَةِ»[1].
  فـ (أينعَ الزَّرعُ): أدرك ونضج، وهو اليَنْع واليُنع، بالفتح والضم كـ (النًضج والنٌضج)، ويجوز ينع الزرع بغير الهمز، ومعنى قوله (قام على ينعه) أن يكون (ينع) هاهنا جمع يانع كـ (صاحب وصحب) أي قام على صفة وحالة نضجه وإدراكه[2].
وجاء الجمع على زنة (فُعُول) وهو جمع للكثرة في قوله (عليه السلام) في خطبتة القاصعة: «وَلَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ، وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ، بَيْنَ جَنَّات وَأَنْهَار، وَسَهْل وَقَرَار، جَمَّ الأشجار، دَانِيَ الِّثمارِ، مُلْتَفَّ الْبُنَى، مُتَّصِلَ الْقُرَى، بَيْنَ بُرَّة سَمْرَاءَ، وَرَوْضَة خَضْرَاءَ، وَأَرْيَاف مُحْدِقَة، وَعِرَاص مُغْدِقَة، وَزُرُوع نَاضِرَة»[3].
  وجاء الجمع منه نكرة مطلقا، وذلك في قوله في خطبة له (عليه السلام): «وَجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبـَةً: مَشْرَباً وَمَطْعَماً، وَأَزْوَاجاً وَخَدَماً، وَقُصُوراً، وَأَنْهَاراً، وَزُرُوعاً، وَثِمَاراً..»[4]،  ويعني بـ(الدَّار) الجَنَّة، وشرح البحراني كونها (الإسلام)، ونرجح كونها الجَّنة التي هيأت للمتقين، فدعي عباد الله المتقين لها، بدليل (مشربا مطعما، أزواجاً خدماً، قصوراً أنهاراً، زروعاً أنهاراً، وثماراً).  و(زروعاً): غروسا من الشجر، يُقَالُ: زرعْتُ الشَّجَرُ، كما يقال: زرعْتُ البرُّ والشعير ويجوز أن يقال: الزروع جمع زرع وهو الإثبات، يقال: زرعَه اللهُ: أنبته.  وحديثٌ الإمام (عليه السلام) عن نعيم الجنة، وهذا كله بيانأً لقدرة الله تعالى في خلقه. 
   وجاء اسم الفاعل من مادة (زرع) ويدلُّ على من قام بعملية الزِّراعة، منها قوله في خلقة السماء والكون: «فَالوَيْلُ لِمَنْ جَحَدَ الْمُقَدِّرَ، وَأَنْكَرَ الْمُدَبِّرَ ! زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارعٌ، وَلاَ لاِخْتِلاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ»[5]،  فلعن الدهريون وشبَّههم بالنابت في الصحاري والجبال ووجه الشبه بينهما (إنعدام الزارع والمدّبِر)،  وذكره للصورتين ؛ لكونه أوضح دلالة على الصانع،  فقد قاسوا أنفسهم على النبات،  فجعلوا لامقَدِّر له بل ينبت وحده[6].
   وقال في النهي عن الفتنة: « أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاح،  أوِ اسْتَسْلَمَ فَأَراحَ، مَاءٌ آجِنٌ،  وَلُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا، وَمُجْتَنِي الَّثمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كالزَّارعِ بِغَيْرِ أرضهِ»[7].
   واستعمل الإمام الاساليب المجازية:  كالاستعارة،  الكناية،  والتشبيه للعدول عن الصيغ الإعتيادية في التعبير،  فقد كَنَّى عن الخِلافة التي عُرِضت عليه البَيْعة عليها،  بالماء الآجن وحين يستعمل الماء الآجن ليُكَنِي به عن الخلافة فهو يريد الإشارة الى القاسم المشترك بينهما (التغير والتحول في الطَعْم واللون)  بالنسبة للماء عندما يكون آجنا،  والتحول،  والتغير الطبيعين في نفوس النَّاس وقناعاتهم بمرور الأيام بما لايرضون الخلافة.  فتوليها يشبه شرب الماء الآجن،  فمَن إجتنى ثمرة قبل أن تُدرَك لاينتفع بها كما لاينتفع الزّارع بغير أرضه من زرعه لعدم قدرته على الإقامة في موضع الزراعة وإنعدام تمكنه من إصلاحها بالسقي والحراسة والجباية،  و(ماء آجن)  خبر للمبتدأ (هذا)   والتقدير (هذا الأمر أو أمر الخلافة)،  والعطف هذا يوحي بأن الجملتين مكملتان لبعضهما ومرتبطتان بمهمة تأدية معنى واحد.  فهذا الوقت ليس صالحاً لطلب الأمر،  لإنعدام الناصر فلا يفي بالغرض[8].
   ويُقدِّم مثالاً آخراً في رفض الأمر وهو جـَـنـِـي الثـِّـمار في غير مواسم جنيها،  وشبهَّه بأمر من يزرع في أرض لايملكها فيذهب زرعه الى غيره بدون فائدة،  والتشبيه بحرف الكاف بين طرفين هما مجتني الثمرة في غير آوانها،  وبين الزَارع بغيرِ أرضه،  فأضفى على الجملتين طاقة شعرية تُفْسِح مجال التأمل ولاسيما أنَّ كلاً منهما يحمل معنى سلبيا لوحده،  فكان تشبيه السَّالب بالسَّالب يُعْكِس تركيزاً واضحاً على ما أراد أن يوصله الإمام،  فأستعمل  (عليه السلام)  هنا إستعارة تقوم على التشبيه المؤكد،  وكالزَّارع إستعمل حرف التشبيه الكاف،  كما حققه إسلوب الشَرط  من حيوية وحركية[9].
  فالخطيب هنا أنشأ معنى الحَرَّكة في المقابلة بين (المُجْتَنِي والزَّارِع)  ؛ لأنَّ كلُّ زرعٍ يُعْقِبُه جـَـنـِـي.
 وجاء المصدر منه مُـعَـرَّفا بـ(ال)،  وفيه دعوة الإمام إلى ترك المنازعة،  فيقول:  مُجْتَني الثَمَّرة قبل أن تدرك لاينتفع بما إجتناه،  كمن زرع في غير أرضه ولاينتفع بذلك الزَّرع،  فهو ليس وقته؛ بل الوقت الذي يُسَّوِغ لي فيه طلب الأمر،  كالزَارع:  خبر لـ(مجتني)  وإنَّ الظروفَ غير مواتيةٍ في طلبِها فهي بالنسبة إليه خصوصا بعد وفاة الرَّسول ؛ كالماء لايستساغ شربه،  واللقمة التي يغص بها،  والثَمَرة المقطوفة قبل نضجها فهي لاينتفع بها،  كما يزرع الإنسان في غير أرضه فلا ينتفع بزرعه،  فيما إحتمل الشيخ محمد عبدة إنَّه يريد بيعة السَقيفة وذهب ابن ابي الحديد الى أنَّه قصد الوقتَ فهو ليس مناسباً فيه طلب الأمر[10].
2) المعنى المجازي: إستعملَ الإمام (عليه السلام) لفظ الزراعة إستعمالا مجازيا،  إذ نجده يقول في صفة الناس بعد إنصرافه من صفِّين: « زَرَعُوا الفُجُورَ،  وَسَقَوْهُ الغُرُورَ،  وَحَصَدُوا الثُّبُورَ»[11].
فما فعلوه من قبائح كزرع زرعوه وماسكنت إليه نفوسهم من الإمهال واغترارهم  كالسَّقي ؛ لأنَّ الغرور يبعث على ملازمة القبيح والزيادة فيه[12].  والفجور لاتزرع،  والغرور لايسقى،  والثبور لاتحصد.
وعنى بهم الفئة التي حاربت الامام في صفين بقيادة معاوية[13].
ومن كتاب له الى الصحابي كميل بن زياد النخعي (رضوان الله عليه)  *  قائلا: « اللَّهُمَّ بَلَى ! لاَ تَخْلُو الأرض مِنْ قَائِم لله بِحُجَّة،  إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً،  أوْ خَائِفاً مَغْمُوراً،  لِئَلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُهُ.  وَكَمْ ذَا وَأَيْنَ أُولئِكَ ؟ أُولئِكَ ـ وَاللَّهِ ـ الاقَلُّونَ عَدَداً،  وَالاْعْظَمُونَ قَدْراً،  يَحْفَظُ اللهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ،  حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ،  وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ»[14]*.
فشبَّه العلم بالزَرع،  فجعل العلم هنا بمثابة الزَّرع الذي يروى وينمى،  وكذلك حال العلماء يودعون العلم الى أبناءهم وطلابهم ممن يأتي بعدهم. 
  إسلوب تحذير من قبل الإمام (عليه السلام)،  وضرب مثلين مشهورين عند العرب لمن يفعل فعلا ولابد من جزاء به (كما تدين تدان وكما تزرع تحصد).
 وجاء المصدر (زَرْع)  في قوله في خطبة له لما بويع في المدينة  إذ يقسمهم على أقسام قائلا: « وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ،  لاَيَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْل،  وَلاَ يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْم»[15].
  والسَّنخ المثبت يُقال ثبتت السن في سنخها:  أي منبتها،  والأصل أنَّ لكلِّ شيءٍ قاعدة فاصل فالجبل قاعدته أسفله،  وأصل النبات جذره المنبت،  وهلاك السَنَخ:  فساده أي لايثبت فيه أصول ولاينمو غرس فيه فكما أنَّ التقوى سنخ لأصول الأعمال فكذلك تستمد منه الأعمال غذاءها،  ماءها،  وجدير بزرعٍ يُسقَى بماءِ التقوى أن لايَظمأ و(على)  بمعنى (مع) [16].
  والزًرْعُ:  نباتُ البُرِّ والشعير،  يحرثه النَّاسُ ويزرعه الله ؛ فينميه حتى يبلغ غايته وتمامه،  والمُزَارِعُ:  الزارع الذي يزرع أرضه[17].
  فـ» الزاء والراء والعين أصل يدلً على تنمية الشيء.  فالزًرع معروف، ومكانه المُزدرع، وقال الخليل: أصل الزرع التنمية.  وكان بعضهم يقول: الزًرع طرح البَذر في الأرض.  والزًرع اسم لمانبت.  والاصل في ذلك كله واحد»[18]
  قال تعالى: ﴿أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾[19].
زرع الحب يزرعه زرعا وزراعة: بذره، والاسم الزًرْع، وقد غلب على البر والشعير، وجمعه زروع، وقيل: الزًرْع نبات كل شيء يُحرث؛ وقيل: الزًرع طرْح البذْر[20].
وزرع العبد: يُحْرث، والله يزرع: يُنبِتُ ويُنَّمي، ومن المجاز: زرع الله ولدك للخير[21]. )([22]).

الهوامش:
[1] نهج البلاغة: خ 101، 103.
[2] ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 7 / 78.
[3] نهج البلاغة: خ 192،  214.
[4] نهج البلاغة:  خ 109،  112.
[5] خ 185،  196 
[6] ظ:  منهاج البراعة:  11 / 22.
[7] نهج البلاغة:  خ 5،  18.
[8] ظ: شرح نهج البلاغة: البحراني: 3 /123.
[9] ظ: المستويات الجمالية في نهج البلاغة: نوفل ابو رغيف: 214.
[10] شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 1 / 205 وظ:  في ظلال نهج البلاغة:  1 / 262.
[11] نهج البلاغة: خ 2، 13.
[12] ظ:  شرح نهج البلاغة:  محمد عبدة:  1 / 33.
[13] ظ:  في ظلال نهج البلاغة:  1 /155. * كميل بن زياد النخعي:  تابعي ثقة من أصحاب الامام علي شريفا مطاعا في قومه ولد في اليمن في القرن السابع الهجري ادرك النبي،  وقيل:  لم يره،  ارتحل الى الكوفة مع بدء الاسلام،  ووقف مع مالك الاشتر بوجه سعيد بن العاص والي الكوفة،  ضرب الحجاج عنقه ودفن في ظهر الكوفة عام (82 هـ)،  بايع الامام علي بعد مقتل عثمان وأخلص في بيعته،  واشترك معه في صِفِّين،  وقد اختصه الامام بدعاء من أعظم الأدعية،  وأسماه باسمه ؛ لذلك قيل عنه بأنه حامل سر الامام علي،  ونصبه الامام عاملا على بيت ماله.
[14] نهج البلاغة:  خ 153،  152.
* وفي هذه الخطبة تصريح من الإمام بظهور الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف)  ؛ لئلا يخلو الزمان من موجه للعباد ومرشد الى طريق النجاة.
[15] نهج البلاغة:  خ 16،  24.
[16] ظ:  شرح نهج البلاغة:  محمد عبدة:  1 / 50.
[17] ظ:  العين (مادة زرع):  1 / 353.
[18] مقاييس اللغة:  3 / 50.
[19] الرحمن / 64.
[20] ظ:  أساس البلاغة:  1 / 413.
[21] ظ:  لسان العرب  (مادة زرع):  3 / 1826.
([22])لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 207-210.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2682 Seconds