الحلقة العاشرة: دلالة قوله (عليه السلام): « أَنْصِفِ اللَّه، وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، ومَنْ لَكَ فِيه هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ » وأثره في تنمية الذات.
بقلم: السيد نبيل الحسني.
الأمر بأنصاف الله وخاصة الأهل والناس من النفس.
لم يزل المدار في الأوامر لمالك الأشتر(رحمه الله) يدور حول النفس وأنصاف الله، وأنصاف الناس منها، وخاصة الأهل والصديق، وهو ما جاء في قوله عليه السلام:
«أَنْصِفِ اللَّه، وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، ومَنْ لَكَ فِيه هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ، ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّه كَانَ اللَّه خَصْمَه دُونَ عِبَادِه، ومَنْ خَاصَمَه اللَّه أَدْحَضَ حُجَّتَه، وكَانَ لِلَّه حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ، ولَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّه وتَعْجِيلِ نِقْمَتِه، مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ، فَإِنَّ اللَّه سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ، وهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ».
ويكشف الحديث عن خطورة إهمال الإنسان لنفسه وعدم الالتفات لفعله في التعامل مع الله وعامة الناس، وخاصته من أهله، والمقربين له من أصدقائه وندمائه وخلانه، ومن ثمّ فأن النص الشريف ينظم للإنسان العلاقات الاجتماعية والأسرية والشخصية في الحياة الدنيا، ويحذّر من الأثار المترتبة على اَنتهاك حقوقهم عِبْر ترك الإنسان الإنصاف من نفسه فيهم فيقع في ظلمهم، ولبيان هذا النظام في ضبط العلاقة مع الله تعالى والناس وخاصة الأهل والإخوان يلزم المرور بعدة نقاط، وهي:
أولا: معنى الإنصاف.
ذكر أهل اللغة: أن الإنصاف هو المساواة بين حق النفس وحق الغير فلا ينقص من حق كل منهما شيء، وتكون المناصفة بالتمام.
قال ابن منظور: «النَّصَفُ والنَّصَفةُ والإِنْصاف: إعطاء الحق، وقد انتصف منه، وأَنصف الرجلُ صاحبه إنْصافاً، وقد أَعطاه النَّصفَةَ. وقال ابن الأَعرابي: أَنصف إذا أَخذ الحق وأَعطى الحق.
والنصَفة: اسم الإِنصاف، وتفسيره أَن تعطيه من نفسك النصَف أَي تُعْطيه من الحق كالذي تستحق لنفسك. ويقال: انتصفت من فلان أَخذْت حقي كَمَلاً حتى صرت أَنا وهو على النَّصَف سَواءً»[1].
ثانياً: الفرق بين العدل والإنصاف وعلاقتهما بالحق والجور.
إنّ تداخل المفاهيم بين العدل والجور، والحق والظلم، كان له من الأثر في تحديد معنى الأمر الذي ورد في العهد الشريف في إنصاف الله تعالى والناس والأهل وغيرهم من النفس، وتجنب الوقوع في الظلم وتلقي عواقبه كما بينَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر.
ولذا: ورد في الفروق بين مفاهيم المفردات ومعانيها «أن الانصاف: إعطاء النصف، والعدل يكون في ذلك وفي غيره، ألا ترى أن السارق إذا قطع قيل: إنه عدل عليه ولا يقال: إنه أنصف؛ وأصل الأنصاف أن تعطيه نصف الشيء وتأخذ نصفه من غير زيادة ولا نقصان، وربما قيل: أطلب منك النصف، كما يقال أطلب منك الأنصاف؛ ثم استعمل في غير ذلك مما ذكرناه، ويقال أنصف الشيء إذا بلغ نصف نفسه، ونصف غيره إذا بلغ نصفه» [2].
وأما علاقته بالظلم والجور فعائدة إلى أن «أصل الظلم نقصان الحق، والجور: العدول عن الحق، من قولنا: جار عن الطريق، إذا عدل عنه؛ وخلف بين النقيضين، فقيل في نقيض الظلم: الأنصاف، وهو إعطاء الحق على التمام؛ وفي نقيض الجور: العدل، وهو العدول بالفعل إلى الحق»[3].
وبذلك يتضح بيان كلام أمير البيان (عليه السلام) حينما أقرن الإنصاف بالظلم في أمره لمالك الأشتر، فما يترتب على عدم الإنصاف هو نقصان الحقوق بين الإنسان والله تعالى، والناس، والأهل، والأصدقاء، وعدم اَعطائهم حقوقهم بتمامها لهم.
ومن ثمّ فإن النص الشريف يؤصل لأهل البحث في العلوم النفسية والاجتماعية هذه العملية البنائية للنفس الإنسانية وتهذيبها، ويظهر أثر هذه الضابطة في تنمية الذات وتطوير القدرات النّفسية وضبط العلاقة مع الآخر ، مما يدعوا إلى الاهتمام بالتراث الفكري والعلمي الذي أكتنزه القرآن والعترة النبوية(عليهم السلام) فهما الثقلان اللذان أوصى بالتمسك بهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنيل النجاة في الدنيا والآخرة[4].
الهوامش:
[1] لسان العرب، ابن منظور: ج9 ص332
[2] الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري: ص80
[3] المصدر السابق: ص172
[4] لمزيد من الاطلاع ، ينظر : فقه صناعة الإنسان ، الأوامر والنواهي في عهد الإمام علي(عليه السلام) لمالك الاشتر(رحمه الله) ، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق ، السيد نبيل الحسني ، ص166-168 / مع بعض الإضافة، إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة - العتبة الحسينية المقدسة ، ط 1 - درا الوارث كربلاء المقدسة 2023م