بقلم: د. جليل منصور العريَّض
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
نعني بالتربية الإنسانية، كل العناصر التربوية التي تهدف لانتشال الإنسان من مهاوي الخوف والسمو بالنفس وصيانة الكرامة والتبصير باساليب الحق، والتربية الإنسانية ـ في فكر علي عليه السلام ـ بمفهومها الذي نهدف إلى تسليط الضوء عليه، هي في الحقيقة جانب من جوانب فكره الأخلاقي المتوحد، مع نظرته المؤمنة بقيمة الإنسان كمخلوق حر، محفوظ الكرامة مصان الحقوق، سواء اكان مسلماً أم كافراً، عربياً أم أعجمياً، قرشياً أم غير قرشي، وقد ركز علي عليه السلام تركيزاً بالغاً على هذا الجانب التربوي، كل ذلك في محاولة منه لكسر حاجز الخوف، الذي فرضته قريش على بقية العرب([1]) بتسلطها واستئثارها، ومن ثم امتهان العرب واحتقارهم للأجناس غير العربية الأخرى([2])، على اعتبار فضلهم في نشر الإسلام، وفي طرق ثالث تسلط المسلمين على غير المسلمين([3]) من الأجناس الأخرى واعتبارهم رقيق ارض فاستحال المجتمع إلى نظام هرمي، تتسلط فيه كل فئة على الاخرى، مما ولد التكبر والازدراء والاحتقار والاستغلال في مقابل الخضوع والاستكانة والخوف، فالعلاقات الإنسانية لم تعد مبنية على أسس من المساواة والحب، بل على الاستبداد والاستغلال التدرجي كل حسب منزلته الاجتماعية، فامتهنت كرامة الإنسان، وضاعت حقوقه، وأخذت المبادئ الإسلامية في التراجع، لتحل محلها الرغبات الذاتية. عاش علي عليه السلام هذه المشاكل بكل أحاسيسه، وكان يشعر في قرارة نفسه أنه لا بد من مواجهة التيار إذا ما أريد أن تعود للإسلام نصاعته، بتنبيه الأمة إلى الخطر المحدق بها، ومحاولة الرفع من المعنويات وبث روح النخوة والحماس، وقد أكثر من مثل تلك الأساليب في خطبه الجهادية([4])، وما تقريعه المستمر لأصحابه بسبب تقاعسهم عن صد غارات معاوية([5])، وتنصلهم من القيام بواجب الجهاد، إلا صورة من صور التربية الإنسانية التي كان المجتمع في مسيس الحاجة إليها في عصره، إذ يمكننا من خلال تعمقنا في فهم مضامين هذه الخطب أن نعيش آلام عليg النفسية بسبب ما أصاب المجتمع من تخاذل وجبن واتكالية، فمن باب التقريع واللوم بقصد إثارة الحمية وبث الحماس، والتبصير بقيمة الإنسان الحقيقية يقول «أيها الناس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقو من قوي عليكم»([6]) فكما يرى علي عليه السلام ، فإن انهزامية نفوس أصحابه لم تتولد عن قوة العدو المقابل، لأن ذلك العدو لم يكن في قوتهم، ولكنها متولدة من تراجع النفوس عن قيمتها الاصلية في معرفة الحق والتصدي للباطل ـ فخلاصة التعبير أن علياً عليه السلام كان يريد ان يعيد إلى أصحابه الثقة في أنفسهم ببنائها بناءً انسانياً يقتضي معرفة الإنسان لقيمته الذاتية دون الاعتماد على الغير في تقييمها حسب معايير اجتماعية متميزة، تتناسب والمصلحة الشخصية لذلك الغير، ومحاولة بناء شخصية الإنسان، وتربيته تربية أخلاقية تقوم على المبادئ والقيم، في العصر الذي استخلف عليg فيه، هي من أعسر الأمور التربوية وأصعبها، لا لكون القيم الإنسانية التي نادى علي عليه السلام بها غريبة على مجتمعه أو جديدة عليه، ولكنها في مجملها تتعارض والتطلعات المادية التي جلبتها الفتوح، فركن الإنسان إلى الدعة وانطفأت في نفسه جذوة الفروسية، ولم يعد يعبأ بالجهاد الذي اعتبره الإسلام من أوجب واجبات الإنسان المسلم، فالمادة قد هدمت ما بناه الإسلام، ومنطق العقل يرى أن الهدم أيسر وأسرع من البناء، خاصة إذا كان ذلك البناء يتعارض وتطلعات الإنسان الذاتية، فإنسان عصر علي عليه السلام ، يدرك تماماً أن ما يرمي إليه علي عليه السلام من إصلاح هو الصواب، ولكن ذلك الادراك لا يعدو ان يكون ومضات سريعة، يعدو بعدها إلى الانجذاب نحو بريق المادة والركون إلى حياة الدعة والراحة، مما يحيل القيم الأخلاقية إلى عبء ثقيل، وهذا بدوره يجعل محاولة اعادة بناء تلك القيم وزرعها في النفوس عسيراً جداً، ويفهم ذلك من التوبيخ الحاد الذي طالما وجهه علي عليه السلام لأصحابه كما في قوله «قبحاً لكم وترحا حين صرتم غرضا يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون، وتُغْزَون ولا تَغْزُون، ويعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر، قلتم: هذه حمارة القيظ، أمهلنا يسيخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر، أمهلنا حتى ينسلخ عنا البرد، كل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فأنتم، والله، من السيف أفر»([7]) فعلى عهد الرسول صلى الله عليه وآله وإبان الفتوحات الإسلامية على عهد أبي بكر وعمر، لم تكن العوامل الطبيعية لتحول بين الفرد المسلم والجهاد، ولكن الركون إلى الدعة هو الذي أدى به إلى ذلك الاتجاه، فلم يعد يعرف معنى الكرامة التي تدفعه للذود عن حياضه وصيانة مبادئه، مما أحال كثيراً من أساليب التربية الإنسانية ـ عند علي عليه السلام ـ إلى ضربات عنيفة، حاول بها استنهاض الفرد بإثارة مشاعرة، ومحاولة تحسيسه بقيمته كإنسان([8])، مع تجنبه كثيراً من السلبيات التي ـ قد يعدها ـ بعض ساسة عصره من أساسيات البناء، فعلي عليه السلام لم يرض لنفسه بأن تكون أساليبه التربوية مشادة على التناقضات والزيف، لأنه يتعامل مع الواقع بشخصية واحدة ترمي إلى اقناع الإنسان بإنسانيته من داخل نفسه، بدون تغذيتها بأية عناصر خارجية تضفي عليها نوعا من الطلاء الخارجي الزائف. على اعتبار ان البناء الحقيقي للفكر الإنساني الحر لا يمكن ان يكون في اتجاهين مضادين، وبمعنى اوضح، فإن الاصلاح لا يمكن أن ينبثق من نفس فاسدة، إلا إذا كان زيفاً، من ذلك قوله لأصحابه «إني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم، ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي»([9]).)([10]).
الهوامش:
([1]) بشأن حالة العناصر المكونة للمجتمع في عصر علي عليه السلام وعلاقتها بعضها ببعض راجع هذا البحث ص 371 وما بعدها.
([2]) المصدر السابق نفسه.
([3]) المصدر السابق نفسه.
([4]) راجع على سبيل المثال ـ خطب 25، 27، 29، 34، 51، 55، 67....
([5]) هي حروب خاطفة شنها معاوية على اطراف البلاد الخاضعة لحكم علي عليه السلام ، وكان ذلك بعد القفول من صفين واختلاف الحكمين، وكان قصد معاوية من ورائها بث الرعب والفزع في أصحاب علي عليه السلام وشغلهم عن الالتفاف حوله حتى لا يعود لمحاربته مرة ثانية، وبشان هذه الغارات وما احدثه فيها أصحاب معاوية من قتل ونهب ودمار، راجع: البلاذري ـ انساب الاشراف ـ 2/437 وما بعدها.
([6]) خطب ـ 167 ـ فقرة 3.
([7]) خطب ـ 27 فقرة 2. تَرَحاً ـ بالتحريك ـ أي هماً وحزناً، والغرض ـ ما ينصب ليرمى بالسهام ونحوها، ويعصى الله ـ اشارة إلى ما ان يفعله جيش معاوية من نهب وسلب وقتل في المسلمين والمعاهدين، حمارة القيظ ـ بتشديد الراء ـ شدة الحر، يسيخ ـ بالخاء المعجمة يخف، صبارة الشتاء ـ بتشديد الراء ـ شدة برده، والقر ـ البرد.
([8]) راجع على سبيل المثال الفقرة الثالثة من الخطب السابقة، ومدى ما فيها من تقريع حاد المراد به الاستنهاض وإثارة الحمية.
([9]) خطب ـ 68.
(([10])) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 478-481.