بقلم: رضي فاهم عيدان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله كما هو أهله وكما يستحقه حمدًا كثيرًا وأعوذ به من شر نفسي إنّ النفس لأمارةٌ بالسوء إلاّ ما رحم ربي، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمّدٍ الأمين وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
إما بعد:
امتازتْ لفظةُ (مُؤمِنا) في الآيةِ التي صُدِّر بها هذا الموضع من البحثِ من جهة وظيفتها النحوية إذا ما قُورنت بنظيراتِها اللواتي اسُتعملن في القرآنِ الكريم ؛ لأنّ هذه اللفظةَ وردَتْ خبراً لـ(كان الناقصة) ، وهي من الأفعال الدالَّة على الزمن من دون الحدث ، يقول ابنُ يعيش(ت643هـ) في معناها بأنها :((تُفيدُ الزمانَ مُجرَداً عن معنى الحَدث ، فتدخلُ على المبتدأِ والخبرِ لإفادةِ زمانِ الخبر، فيصيرُ الخبرُ عِوضاً عن معنى الحدَثِ فيها ، فإذا قلت : كانَ زيدٌ قائماً ، فهو بمنزلةِ قولِك : قامَ زيدٌ في إفادة الحدث والزمن)) فالخبر عوَّض عن نقص الحدثية في دلالة الأفعال الناقصة ([1]).
أمَّا دلالةُ (كان الناقصة) عِندَ الرضيِّ الأَسترابادي (ت688هـ) فهي تُقرِّرُ اتصافَ فاعلِها بوجودِه على صفةٍ مَا، يقول: ((أمَّا النَّاقصةُ فهي لتقريرِ فاعلِها على صِفَةٍ مُتَّصِفةٍ بمصادرِ الناقصةِ، فمعنى كانَ زيدٌ قائماً: أنَّ زيداً متصفٌ بصفةِ القيامِ المُتَصف بصفةِ الكونِ أي الحصولُ والوجود)) ([2]).
وهذا يعني أنَّ منْ تعلقتْ بهِ الآية قد وُجِد منهُ الإيمانُ في الزمانِ الماضي مستقرًا عنده، كما أنَّ اقترانَ هذه اللفظةِ بكان الناقصةِ هو الموردُ الوحيدُ في القرآنِ الكريم ([3])، وبهذا المعنى يُمكن القولُ أنَّ (مَنْ كان مُؤمناً) استقر في الإيمانِ، وكان الأُنموذج المثالي في الإيمانِ الذي هو شرطٌ في الحصول على الجزاء الإلهي في الآيات القرآنية التي وردت فيها لفظة (مؤمن)، ومن ثمَّ فإيجاده للإيمان يؤهله للحصول على ما وعدت به تلك الآيات.
وينقل سيبويه (ت180هـ) عن الخليل في ما يتعلق بدلالة جملة الصلة أنَّها وصفٌ لـ(مَنْ) و (مَا) الموصولتين؛ يقول: ((وذلك قولك: هذا مَنْ أعرفُ مُنطلِقاً، وهذا مَنْ لا أعرفُ مُنطلِقاً، أي هذا الذي علمتُ أنِّي لا أعرفُه مُنطلِقاً. وهذا ما عِندي مَهيناً، وأعرفُ ولا أعرفُ وعندي حشوٌ لهما يتِمَّانِ به، فيصيرانِ اسماً كما كانَ الذي لا يتمُّ إلا بحشوِه ، وقال الخليل رحمه الله: إنْ شئتَ جعلتَ مَنْ بمنزلة إنسانٍ وجعلتَ مَا بمنزلةِ شيءٍ نَكِرَتينِ، ويصيرُ منطِلقٌ صفةً لمَنْ ومَهينٌ صفةً لِمَا.))([4]) فجملة الصلة عند الخليل – بحسب ما ذكر سيبويه - تصف الاسم الموصول وهي بذلك تمنحه بعدًا دلاليًا .
ويتعاضد مع دلالة الوصفيَّةِ في جُملة الصلةِ التعبيرُ باسمِ الفاعلِ باعتبارهِ من المُشتقات ، و لهُ أثرُه في إبرازِ الذات المتلبسة بالحدث، ليُوحي بوجودِ المُسند إليه (اسم كان ) بعد حذفه؛ قال الرضيُّ : ((إنَّ الصفاتَ أيضاً، إذا ذكرتَها مجَرَدةً من مَتبُوعاتِها فلا بُدَّ فيها من الدلالةِ على الذاتِ مع المعنى المتعلِق بها، وكذا إذا ذكرتَها مع متبوعاتِها، لأن معنى (ضارب): ذو ضَرْب، ولا شكَّ أنَّ معنى (ذو): ذات، ومعنى (ضَرْب) مُعنىً في تلك الذات،... فإنَّ نحوَ ضارب، وإنْ دلَّ على الذاتِ، إلا أنَّ المقصودَ الأهمَ به: الحدثُ القائمُ بالذاتِ المطلقة، التي دل عليها، هذا اللفظ )) ([5])، وتجرد اسم الفاعل عن معموله وتعلقه بـ( كان ) مرجِّحٌ على دلالة الاسمية فيه من دون الفعلية .
ويعطي الرضيّ لجملة الصلة بُعدًا دلاليًا أقوى من الوصف ، ذلك أنها تجعل الاسم الموصول معهوداً لدى المخاطب فلا يكون نكرة يحتاج إلى وصف كما ذكر الخليل ؛ وبهذا الشأن يقول : ((إنَّ الموصولاتِ معارفٌ وضعاً ، وذلكَ لِما قُلنا إنَّ وضعَها على أنْ يُطلِقَها المتكلمُ على المعلومِ عندَ المخاطبِ ، وهذه خاصةُ المعارف )) ([6]) .
وهذا التعريف في الاسم الموصول إنما اكتسبه من دلالة جملة الصلة التي تكسب الموصول دلالة التعيين ؛ ولذلك عقَّبه بقوله : ((فرقٌ بينَ كونِ (مَنْ) موصولة، وموصوفة؛ وذلك لأنّا نقول، كما سبق، إنَّ تعريفَ الموصولِ بوضعِه معرفة مُشاراً به إلى المعهودِ بينَ المُتكلمِ والمُخاطب بمضمُون صِلَته، فمعنى قولِك: لقيتُ مَن ضربتُه، إذا كانتْ (مَن) مَوصوُلة: لقيتُ الإنسانَ المعهودَ بكونِه مضروباً لك، فهي موضوعةٌ على أن تكون معرفةً بصلتِها، وأمَّا إذا جعلتها موصوفة، فكأنكَ قلتَ : لقيتُ إنساناً مضروباً لك ))([7])، فالاسمُ الموصولُ في قولهِ تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا} من المعارف بحسبِ الأصل ، اكتسب تعريفَهُ من جملةِ الصلة ، وهي بمثابةِ لامِ العهد في المُعرَّفِ بالألفِ واللام .
ويُفهم منه أنَّ (مَن كان مؤمناً) معروفٌ لدى السامعِ بسبقِه للإيمان وشُهرته به، ويُساعد عليه حذفُ المسندِ إليه (اسم كان) وكأنَّه لاشتهارِه بالإيمان استُغني عن ذكره ([8])، والتعبيرُ القرآني يُوجِّهُ الذهنَ نحوَ اتصافِ المسندِ إليه بالإيمانِ وإيجادِه منهُ في الزمنِ الماضي ([9]).
الهوامش:
([1]) شرح المفصل : 6/97 .
([2]) شرح الرضي على الكافية: 4/182 .
([3]) لمراجعة هذه الموارد ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : 114-115 .
([4]) الكتاب : ج/105 .
([5]) شرح الرضي على الكافية : 2/284 .
([6]) المصدر السابق : 3/8 .
([7])المصدر السابق : الصحيفة نفسها .
([8]) ينظر: دلائل الإعجاز في علم المعاني: 117
([9]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الآيات المتعلقة بالإمام علي (عليه السلام)/ دراسة في ضوء المعنى النحوي الدلالي، تأليف: رضي فاهم عيدان، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 60-64.