بقلم: رضي فاهم عيدان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله كما هو أهله وكما يستحقه حمدًا كثيرًا وأعوذ به من شر نفسي إنّ النفس لأمارةٌ بالسوء إلاّ ما رحم ربي، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمّدٍ الأمين وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
إما بعد:
مَجِيءُ (الصادقين) على هيأةِ اسمِ الفاعل يشير إلى دَلالتِه على الذَّاتِ (( وهو : ما دلَّ على الحَدَثِ والحُدُوثِ وفَاعِلِه )) ([1]) ؛ إذِ الأصلُ فيهِ دَلالتُه على الذَّاتِ المُتَّصِفَةِ بالفعل قائمةً به ([2]) ، ويُزاد عليها أيضًا دلالته على الحدوث أو الدَّوام ، جاء في الكليات أنَّ (( اسمَ الفاعلِ لمَّا كانَ جَارِيًا على الفعلِ، جازَ أنْ يُقصَدَ به الحدوث بمَعُوَنةِ القرائن كَما في ( ضايق ) ، ويجوزُ أنْ يقصدَ بهِ الدَّوام كما في المدحِ والمبالغةِ ))([3]) فدلالته مشتركة بين الفعل في دلالته على الحدوث والتجدد والاسم في دلالته على الثبوت والاستمرار .
وتَعَلُّقِ اللفظةِ بفعلِ الأمرِ (كُونُوا) في الآية موضع البحث يُرَشِّحُ دلالةَ اللفظةِ إلى الاسمية الدَّالةِ على الثّبوُتِ، من دُونِ أنْ يُرادَ بها الحَدَثُ، فتكونُ اللامُ لامَ التَّعريفِ لا المَوصُولَةَ، ولذلكَ لمْ تجتمعِ اللامُ الموصولةُ معَ الصفةِ المُشَبَّهةِ واسمِ التَّفضِيلِ لِما فيِهِمَا من معنى الثِّبوُتِ ولأنَّهُما لا تُأوَّلان بالفعل([4]).
دلالة (مع):
(مع) ظرفٌ دالٌّ على الاجتماع والصُحْبَةِ؛ قالَ سيبويه: ((وسَأَلتُ الخليلَ عن مَعَكُم ومعَ، لِأيِّ شيءٍ نَصبَتها؟ فقال: لأنَّها استُعْمِلتْ غيرَ مُضَافَةٍ اسماً كجميع، ووقعتْ نكرةً، وذلك قولك: جاءا مَعَاً وذَهَبا مَعاً وقدْ ذهبَ معه ، ومن معه ، صارتْ ظرفاً ، فجعلوهَا بمنزلة: أمام وقداَّم))([5]) وتتضح دلالتها على الصحبة من خلال ما أورده سيبويه من الأمثلة(جاءا و ذهبا) وأوضح المرادي هذه الدلالة بصراحة ؛ فهي ((اسمٌ لمكانِ الاصطحاب ، أو وقتهِ، على حَسَبِ ما يليقُ بالمضافِ إليه... لازمٌ للظرفيةِ لا يخرجُ عنها، إلاّ إلى الجرِ بـ(مِنْ) ))([6]) ، ومَجيِئُها مُضافةً يَجعلُها في واحدٍ من ثلاثة معان ؛ قالَ ابنُ هشام(ت761هـ):((وتُستعملُ مُضافةً ؛ فتكون ظَرفًا، ولها حينئذٍ ثلاثةُ معانٍ: أحدُها: موضعُ الاجتماع ؛ ولهذا يُخبَرُ بِها عن الذَّواتِ نحوَ (واللهُ معكمْ).والثاني: زمانُه ، نَحوَ: "جئتُك معَ العصر". والثالثُ: مرادفة عِنْدَ)) ([7]) واقتران الصادقين بها يؤيد دلالته على الذات ، والمعنى اجتمعوا مع الذوات الصادقة .
وورود (مع) في الآية مورد البحث من دون ( من ) ظاهرٌ في الانتحاء بالصادقين للدلالة على طائفةٍ محددة ( خاصة ) ؛ قال أبو حيان(ت745هـ) :((قال صاحبُ اللَّوامح: و( مِنْ ) أَعمُّ مِن ( معَ ) ؛ لأنَّ كلَّ مَنْ كانَ مِن قومٍ فهوَ مَعَهُم في المعنى المأمُورِ بِه ، ولا يَنعَكِسُ ذلك )) ([8]) ، ومنهُ يُفهَمُ أنَّ المَأْمُورينَ ليسُوا مِن طائفةٍ (الصادقين ) بالمعنى الكامل لمفهوم الصدق كما ذُكر ، وهذهِ الخصوصيةُ لـ( معَ ) مُعتَبرةٌ في الآيةِ الكريمةِ ؛ إذ يُلحظ فيها أنَّ الأمرَ (للذين آمنوا ) أنْ يكونُوا معَ الصادِقينَ لا أنْ يكونُوا مِنهُم ، وكأنَّ غايةَ ما سيصلون إليه هو أن يتبعوا الصادقين بالكونِ معهم ومصاحبتهم ، وهذا يُؤكِّدُ معنى أن يكونَ (الصَّادقين) قُدوَةً لغيرِهم .
وإيرادُ ( معَ ) في سياقِ الأمرِ بِدَلالَةِ الفعل ( كونُوا ) ، يجعلُها في معنى المُطْلَقَةِ من قيدِ الزَّمانِ والمكانِ ، فتكون بمعنى الاجتماع المطلقِ لا في زمانٍ أو مكانٍ مُحددينِ ، قال السيوطي(ت911هـ) في معنى ( معَ ): ((وقَد يُرادُ بهِ مُجَرّدِ الاجتماع والاشتراك ، من غيرِ مُلاحظَةِ المَكانِ والزَّمانِ نَحو {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ})) ([9]).
فعل الأمر (كونوا):
أمَّا فعلُ الأمرِ( كونوا ): ففيهِ دَلالَةٌ على وُجوبِ اتِّباعِ (الصَّادِقين) والاجتماعِ معَهُم لصدقهم وكمال هذه الصفة فيهم ، واستعمال فعل الكون دالٌّ على إطلاق الحدث من نوعه إلى الوجود العام (المطلق) ([10]) ما يعمُّ كلَّ الأفعال التي يأتي بها المأمورون ، وإطلاقُ الأمر بمصاحبةِ الصادقين من جميع الجهات يشير إلى عصمتهم ؛ ولقد فصَّلَ الفخر الرازي(ت604هـ) في ذلكَ عِنْدَ تَفْسيرِهِ لهذهِ الآيةِ ؛ قال : (( إنَّ قولَّه : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله}أمرٌ لهم بالتَّقوى ، وهذا الأمرُ إنَّما يَتَناولُ مَنْ يَصِحُ مِنهُ أنْ لا يكونَ مُتَّقِيَاً ، وإنَّما يكونُ كذلكَ لو كانَ جائزَ الخطَأ ، فكانت الآيةُ دالًّةً على أنَّ مَنْ كانَ جائزَ الخطَأِ وَجَبَ كونُهُ مُقتَدِياً بمَنْ كانَ واجبَ العِصْمَةِ ، وهُمُ الَّذينَ حَكَمَ اللهُ تَعالى بِكَونِهم صادِقين ، فهذا يدلُّ على أنَّهُ واجبٌ على جائِزِ الخَطَأِ كونُهُ مع المعصومِ عنِ الخَطَأِ حتى يكونَ المعصومُ عن الخطأِ مانعاً لجائزِ الخطأِ عن الخطأ ))([11])، وهُو ما يجعَلُ هذا الأمر سائرًا بأمر الذين آمنوا في كلِّ زمان ومكان بالكون مع هؤلاء الصادقين وهو ما يشير إلى أن وجودَ (الصادقين) في كلِّ مكانٍ وزمانٍ لازمًا للحيلولةِ من دونِ انحرافِ الأمَّة عن مسارِها الصحيح ([12]).
الهوامش:
([1]) أوضح المسالك إلى ألفية ابن الك : 3 / 216 .
([2]) ينظر : شرح الرضي على كافية ابن الحاجب: 3 / 416 .
([3]) الكليات : القسم الأول : 131 .
([4]) ينظر : منهج السالك إلى ألفية ابن مالك " المعروف بشرح الأشمونى على ألفية ابن مالك : 1/ 150 .
([5]) الكتاب : 3/286-287
([6]) الجنى الداني في حروف المعاني: 1/ 306 .
([7]) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب : 1/346 .
([8]) البحر المحيط: 5/114 .
([9]) الإتقان في علوم القرآن : 2/473 .
([10]) ينظر : 4/317 .
([11]) مفاتيح الغيب: 16/227.
([12]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الآيات المتعلقة بالإمام علي (عليه السلام)/ دراسة في ضوء المعنى النحوي الدلالي، تأليف: رضي فاهم عيدان، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 72-76.