بقلم: د. جليل منصور العريَّض
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
الإيمان بالملائكة من صلب العقيدة الإسلامية لقوله تعالى:
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}([1]) علما بأنه لا سبيل إلى معرفة حقيقتهم إلا عن طريق القرآن الكريم، فمن يؤمن بما جاء به القرآن الكريم من أخبار يتحتم عليه الإيمان بالملائكة. وقد أشار علي عليه السلام إلى عجز الإنسان عن وصف الملائكة، وذلك على سبيل تحدي قدرته ضمن قوله «إن كنت صادقا أيها المكلف لوصف ربك، فصف جبريل، وميكائيل... والملائكة المقربين»([2])، لذلك لم يؤثر عنه وصف أشكالهم وهيئاتهم، إلا في حدود ما أورده القرآن الكريم عنهم.
فعن خلقهم فقد جعل زمنه سابقاً لخلق آدم، وهو ما يتناسب وما ورد في قوله تعالى:
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}([3]) فالأمر صادر من الله إلى ملائكته بالسجود لآدم، وذلك يقتضي عقلا ان يكونوا قد خلقوا قبله، ثم إن عليا عليه السلام قد نفى عنهم الصفات الإنسانية في تكاثرهم «فلم يسكنوا الأصلاب، ولم يضمّنوا الأرحام، ولم يخلقوا (من ماء مهين) ولم يتشعبهم (ريب المنون)([4]) وكل ذلك مستنبط من آيات متعددة تنفي في مجملها صفات الإنسان عن الملائكة([5]). وقد قسمهم من حيث اختصاصهم بالله سبحانه على أربعة أقسام هي:
1ـ المختصون بعبادة الله سبحانه وتسبيحه وذلك في قوله: «منهم سجود لا يركعون وركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسامون، ولا يغشاهم نوم العين، ولا سهو العقول...»([6])
2ـ القائمون بأمر الوحي وتبليغ الرسالات، وقد وصفهم بقوله «ومنهم أمناء وحيه، وألسنة رسله»([7]).
3ـ القائمون بحفظ العباد من المخاطر والمهالك، والمراقبون لأعمالهم، وخدم الجنة وقد قال فيهم «ومنهم الحفظة لعباده، والسدنة لأبواب جنانه»([8]).
4ـ القائمون بحمل العرش: كأنهم القوة العامة التي افاضها الله في العالم الكلي، فهي الماسكة له الحافظة لكل جزء منه»([9]) وقد ورد ذكرهم في قوله: «ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى اقدامهم، والمارقة من السماء العليا اعناقهم والخارجة من الاقطار اركانهم والمناسبة لقوائم العرش اكتافهم»([10]).
والتقسمات الأربعة السابقة لا تعدو كونها تفصيلا لمجمل ما ورد في القرآن الكريم، صاغه علي عليه السلام بأسلوب تصويري يهدف منه إيقاظ الإيمان في النفوس، دون اللجوء إلى الماروائيات البعيدة عن روح الدين. أما قضية المفاضلة بين الملائكة وآدم، التي أثارت جدلا واسعا في أوساط الفقهاء والمتكلمين المسلمين»([11])، فلم نجد لها أي صدى فيما أقر عن علي عليه السلام من نصوص في النهج)([12]).
الهوامش:
([1]) البقرة/285.
([2]) خطب ـ 184 ـ فقرة 4.
([3]) الحجر /29.
([4]) خطب ـ 108 ـ فقرة 2.
وقد تضمن المقولة من القرآن الكريم، وحسب ترتيب الورود في السياق: السجدة/ 8،الطور 30.
([5]) راجع: الأنعام/9، الإسراء/40، 90، الزخرف/19.
([6]) خطب ـ1ـ فقرة 3 وصافون: قائمون صفوفا، لا يتزايلون: لا يتفارقون.
([7]) خطب ـ 1ـ فقرة 3.
يرى محمد عبده في شرحه للنهج ص 28 الإحالة أن هؤلاء هم الامناء على وحي الله لأنبيائه، وأنهم الألسنة الناطقة في افواه رسله، والمختلفون بالأقضية إلى العباد، وبهم يقضي الله على من يشاء بما يشاء.
([8]) المرجع السابق. ويرى محمد عبده ان هذا الفئة من الملائكة هم حفظة العباد كأنهم قوى مودعة في أبدان البشر ونفوسهم، ويحفظ الله الموصولين بها من المهالك والمعاطب، ولولاهم لكان العطب ألصق بالإنسان من السلامة، كما أنهم من خدمة الجنة، يحفظون ما عهد إليهم، ويوقومون على خدمته.
([9]) محمد عبده ـ شرح النهج ص 28 ط ـ الأندلس.
([10]) خطب ـ1ـ فقرة3، والعرش بحسب التأويل كناية «عن العز والسلطان... وعرش الله ما لا يعلمه البشر على الحقيقة الا بالاسم، وليس كما تذهب إليه اوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له تعالى عن ذلك لا محمولا... وقوله تعالى {ذُو اَلعَرْشِ المَجِيدِ...} البروج/ 15)... وما يجري مجراها ـ قيل هو اشارة إلى ملكه وسلطانه»، الراغب الاصبهاني ـ المفردات في غريب القرآن ص 493ـ 494 ـ وعلى هذا المحمل يمكن تأويل العرش عند علي عليه السلام لأنه ينفي عن الله كل الصفات مكانية وزمانية ويمكن استخلاص ذلك مما ورد عند الكليني في اصول الكافي 1/129 وما بعدها.
([11]) بشأن الملائكة واختلاف الاقوال فيهم وفي خلقهم يراجع ـ تفسير الرازي 2/174 وما بعدها، وقد تطرق إلى الموضوع أيضاً محمد جواد مغنية في تفسير الكاشف 1/82.
([12]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 516-518.