القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة القضايا الكلامية المتعلقة بالعقيدة: ثالثًا- الرسل والأنبياء

مقالات وبحوث

القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة القضايا الكلامية المتعلقة بالعقيدة: ثالثًا- الرسل والأنبياء

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 21-07-2025

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:
عرض علي عليه السلام في كثير من خطبه إلى الرسل والرسالات وقد استحوذ النبي محمد صلى الله عليه وآله على النصيب الأوفى من فكره، وقد ركز على عدة جوانب اعتقادية يمكن حصرها في ثلاثة هي:

الأولى- أهمية الرسول والمهام المناطة بهم:
يستنتج من كلام علي عليه السلام الذي تناول فيه واجبات الرسل، أن الله سبحانه وتعالى حين خلق الإنسان، واسند إليه خلافة الأرض، أخذ عليه وعلى ذريته ميثاقاً بتوحيده، والايمان به، بفطرته التي فطره الله عليها دون حاجة إلى هاد يرشده، وقد اودع الله ذلك الميثاق عقل الإنسان بهدايته إلى التأمل فيما حوله من آيات وامثال وعلامات تدل على عظمة الخالق وقدرته والفكرة ـ كما نعتقد ـ تتسق وما ورد في قوله تعالى:

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}[1]. وقد استجاب الإنسان في بداية أمره لذلك الميثاق الإلهي، الا انه سرعان ما استحكمت الشهوات بنفسه، وملكت عليه ملذات الدنيا لُبّه، فأدار ظهره لذلك الميثاق فنسيه، بمرور الأزمان وتعاقب الأجيال، فكان لابد من تذكيره، وإقامة الحجة عليه قبل محاسبته، وإيقاع العقاب عليه، ومن أجل ذلك كما يقول علي عليه السلام «بعث (الله) فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم الآيات المقدرة...»[2]فأهمية الرسل تكمن في تبصير الناس وتذكيرهم بواجباتهم نحو خالقهم سبحانه، فهم هداة البشرية، ينتشلون النفوس من براثن الجهل ويأخذون بالأيدي إلى الخير والصلاح والعدل، ويبصّرون الناس سبيل الفلاح بإثارة العقل والتأمل في خلق الله.
ولأهمية دور الرسل بالنسبة لهداية الإنسانية في أحقابها المختلفة يرى علي عليه السلام ان الله سبحانه «لم يخل... خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة، قائمة»[3] فاستمرارية تواتر الرسل في فترات مختلفة لحاجة البشرية إليهم كهداة، من الدعامات الرئيسية التي انبنى عليها فكر علي عليه السلام الاعتقادي، ولأهمية مكانتهم، فقد تطرق علي عليه السلام إلى قضية تنزيههم.

الثاني- تنزيه الأنبياء والرسل:
اسبغ علي عليه السلام على الأنبياء صفات أخلاقية هي الغاية في مثاليتها ـ لكونها كما يرى، القدرة المحتذاة، فاختيارهم كهداة للبشرية من لدن الله سبحانه وتعالى، جعله يتعهدهم برعايته ويحيطهم بعنايته، منذ نشأتهم الأولى، وفي ذلك يقول علي عليه السلام «استودعهم في افضل مستودع، واقرهم في خير مستقر، تتناسخهم كرائم الاصلاب، إلى مطهرات الارحام، كلما مضى منهم سلف، قام منهم بدين الله خلف»[4]فهم على هذا الحال، منزهون عن كل الدنايا التي تسيء إلى اصولهم، محاطون برعاية الأهمية في مختلف اطوار حياتهم التكوينية، فأصالهم معرقة في الكرم وطيب العنصر، يتنقلون في الاجيال حتى يبعثهم الله سبحانه، وتستمر رعايته لهم في الدنيا منذ يوم ولادة كل واحد منهم فيزودهم بآداب الهية، واخلاق قدسية، تقوم الملائكة برعايتها، وتعهدها، وفي ذلك يقول علي عليه السلام بشأن رعاية الله للرسول صلى الله عليه وآله «لقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن ان كان فطيما، أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره»[5]، وهو ما يمكن ان نطلق عليه تجوزا معنى العصمة، لأن التربية المرعية من قبل الملائكة لا بد ان تحيط صاحبها بسياج من الأخلاق التي تحول بينه وبين مواقعة الخطأ منذ نشأته الأولى وعلى ذلك السبيل يمكن الاعتقاد بقول علي عليه السلام بتنزيه الأنبياء.

الثالث- علاقة الزهد بالنبوة:
إن الأخلاق المتناهية في سموها ومثاليتها، تردع نفوس أولئك النخبة من البشر عن الرضوخ إلى الاهواء والجري وراء اللذات، فالزهد في كل ما هو زائل من نعيم الدنيا من أبرز سمات الأنبياء الأخلاقية كما يرى علي عليه السلام ، فموسى عليه السلام «كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزالة وتشذب لحمه»[6] كما بلغ الزهد بنبي الله داود إلى درجة انه «كان يعمل سفائف الخوص بيده، ويقول لجلسائه: ايكم يكفيني بيعها ويأكل قرص الشعير من ثمنها»[7]اما عيسى عليه السلام فقد «كان يتوسد الحجر، ويلبس الخشن ويأكل الجشب»[8] اما الرسول صلى الله عليه وآله فقد «قضم الدنيا قضما، ولم يعرها طرفا، أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدنيا بطنا»[9] وهذا التناهي في الزهد لم يكن ـ كما يرى علي عليه السلام ـ تسليماً لأمر واقع، لأنه اختيار فيه تثبيت لحقيقة رسالاتهم، وصدق اخلاصهم، لأنه «لو اراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم، ان يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان، ومغارس الجنان لفعل»[10] ولو انه سبحانه هيأ لهم كل ذلك النعيم الدنيوي، ومنحهم السلطة والهيمنة على الناس، لبطل الثواب والعقاب، لأنهم سيستخدمون الرهبة والرعبة في تثبيت دعائم رسالاتهم، وهذا يتنافى وجوهر الإيمان الفطري المبني على الاقتناع الذاتي، البعيد عن أية تأثيرات خارجية. فالزهد والقناعة وقوة الإرادة، كل ذلك من دلائل النبوة، كما يرى علي عليه السلام، وفي ذلك يقول ان «الله سبحانه جعل رسله اولي قوة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الاعين من حالاتهم، مع قناعة تملا القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الابصار والاسماع اذى»[11])([12]).

الهوامش:
[1] الأعراف/172.
[2] خطب ـ فقرة 5 ـ ويستأدوهم ـ يطلبوا منهم أداء الميثاق الذي أخذه الله على آدم من قبل.
[3] المصدر السابق.
[4] خطب ـ 93 ـ فقرة 2.
[5] خطب ـ 240 ـ فقرة 26.
[6] خطب ـ 11 فقرة 6، 7، 8، 9، الصفاق ـ على وزن كتاب: هو الغشاء الرقيق الذي تحت الجلد، والتشذب، التفرق.
[7] السابق، والسفائف جمع سفيفة: منسوجات الخوص.
[8] السابق، والجشب بكسر الشين: الغليظ الخشن.
[9] السابق، ويقضم يأكل على اطراف اسنانه، أي لم يملأ منها فمه، واهضم على وزن افعل من الهضم، وهو خمص البطن أي خلوها وانطباقها، والكشح، ما بين الخاصرتين إلى الضلع الخلفي، واخمصهم: اخواهم واخلاهم.
[10] خطب 240 ـ فقرة 11.
[11] المصدر السابق.
([12]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 519-522.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.1220 Seconds