(شرح نهج البلاغة)، ما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله، فقد علمت أنَّه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكلِّ حيله في إطفاء نوره، والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة، أو يرفع له ذكرا، حتَّى حظروا أن يسمى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلَّا رفعةً وسموَّا، وكان كالمسك كلَّما ستر انتشر عرفه، وكلَّما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح ، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة، أدركته عيون كثيره !
وما أقول في رجل تُعزى إليه كلَّ فضيلة، وتنتهي إليه كلُّ فرقة، وتتجاذبه كلُّ طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، كلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى) .
(شرح نهج البلاغة)، إنَّه (عليه السلام)، كان أولى بالأمر وأحق، لا على وجه النص، بل على وجه الأفضلية، فإنَّه أفضل البشر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأحق بالخلافة من جميع المسلمين، لكنَّه ترك حقَّه لما علمه من المصلحة، وما تفرَّس فيه هو والمسلمون من اضطراب الإسلام، وانتشار الكلمة، لحسد العرب له، وضغنهم عليه، وجائز لمن كان أولى بشئ فتركه ثمَّ استرجعه أن يقول: قد رجع الأمر إلى أهله) .
(شرح ابن أبي الحديد)، فإن قيل: ما معنى قوله عليه السلام: ((لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا))، قيل لا شبهة أنَّ المنعم أعلى وأشرف من المنعم عليه، ولا ريب أنَّ محمداً (صلى الله عليه وآله) وأهله الأدنين من بني هاشم، لا سيَّما علياً (عليه السلام)، أنعموا على الخلق كافة بنعمةٍ لا يقدر قدرها، وهي الدعاء إلى الاسلام والهداية إليه، فمحمد (صلى الله عليه وآله) وإن كان هدى الخلق بالدعوة التي قام بها بلسانه ويده، ونصره الله تعالى له بملائكته وتأييده، وهو السيد المتبوع، والمصطفى المنتجب الواجب الطاعة، إلَّا أنَّ لعلي (عليه السلام) من الهداية أيضا - وإن كان ثانيا لأول ، ومصلياً على إثر سابق - ما لا يجحد، ولو لم يكن إلا جهاده بالسيف أولا وثانيا ، وما كان بين الجهادين من نشر العلوم وتفسير القرآن، وإرشاد العرب إلى ما لم تكن له فاهمة ولا متصورة ، لكفى في وجوب حقِّه، وسبوغ نعمته (عليه السلام) .
... واعلم أنَّ علياً (عليه السلام)، كان يدَّعى التقدم على الكل، والشرف على الكل، والنعمة على الكل ، بابن عمِّه (صلى الله عليه وآله)، وبنفسه وبأبيه أبى طالب، فإنَّ من قرأ علوم السير عرف، أنَّ الإسلام لولا أبو طالب لم يكن شيئا مذكورا)، وليس لقائل أن يقول: كيف يقال هذا في دين تكفَّل الله تعالى بإظهاره ، سواء أبو طالب موجوداً أو معدوما ؟ لأنَّا نقول: فينبغي على هذا ألا يمدح رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لا يقال: إنَّه هدى الناس من الضلالة، وأنقذهم من الجهالة، وأنَّ له حقاً على المسلمين، وأنَّه لولاه لما عبد الله تعالى في الأرض) .