من فاطمة إلى فاطمة وفاء وإيثار.

مقالات وبحوث

من فاطمة إلى فاطمة وفاء وإيثار.

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 19-02-2019

من فاطمة إلى فاطمة وفاء وإيثار.

 

الْحَمْدُ للهِ وَإنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ، وَالْحَدَثِ الْجَلِيلِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاّ اللهُ، لَيْسَ مَعَهُ إِلهٌ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وآله.

 

ما برحت زفرات علي عليه السلام تعرب عن حزنه السرمد على فقد الصفية بعد أبيها المصطفى عليهم السلام، في وقت قد انشبت الدنيا عليه أظفارها وهو يسير على طريق الحق الذي شح فيه الناصر والمؤيد؛ إذ (( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ))([1])، فالسواد العام يتبع ملذات الدنيا حيث باذليها بغية توطيد حكم ليس في أهله، أو مغصوب من الذين نُصَّ عليهم فيه.

 

وقد شهدت مراسيم دفن السيدة الزهراء معالم الحزن العلوي المتقطع وقد ترجم عليه السلام ذلك بخطبة خاطب بها النبي صلى الله عليه وآله، ومنها: ((فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ، وَأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ! أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ، وَأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ، إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ))([2])، (( يريد أنّ حزنه دائم وأنّه يسهر ليله إلى انتقاله إلى الدّار الآخرة والتحاقه برسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم في مجلس القدس ومحفل الانس. وهذا كما قال الشّارح المعتزلي من باب المبالغة الَّتي يستعملها الفصحاء والشّعراء في كلامهم وهو من محاسن البلاغة))([3]).

 

يعد أهل البيت عليهم السلام منار هداية، وفي الذكر الحكيم وصفهم(( أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ))([4])، وكان من ضمن ما أوصت به السيدة فاطمة عليها السلام (( يا بن عم، أوصيك أولاً أن تتزوج بعدي بابنة أختي أمامة فإنها لولدي مثلي، فإن الرجال لابد لهم من النساء))([5])، فتزوجها عليه السلام ولكنها لم تنجب له أولادا([6]).

 

حتى وصل المطاف إلى أم البنين إذ روي أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام قال لأخيه عقيل - وكان نسابة عالما بأنساب العرب وأخبارهم - : أنظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاما فارسا . فقال له : تزوج أم البنين الكلابية فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها، واسمها: فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة ابن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية ابن بكر بن هوازن ، وأمها ليلى بنت السهيل بن مالك ، وهو ابن أبي برة عامر ملاعب الأسنة بن مالك بن جعفر بن كلاب ، وأمهما عمرة بنت الطفيل بن عامر وأمها كبشة بنت عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب ، وأمها فاطمة بنت عبد شمس بن عبد مناف([7])، ولدت على الأرجح في السّنة الخامسة للهجرة الشّريفة على أشهر الرّوايات([8])، وقد عرفت بكنى كثيرة منها: أم البنين وهي أشهرها، وأم الفداء، وأم الشهداء، وأم العباس، وأم الأربعة، وأم شهداء الطف، والمطيعة، والممتحنة، وجميع هذه الكنى تعرب عن إيمان و ورع وإخلاص. وقد احتلت السيدة فاطمة بنت حزام مكانة عالية ومرموقة عند أهل البيت عليهم السلام، وعند عامة المسلمين، إذ كانت من النساء الفاضلات العارفات بحق أهل البيت مخلصة في ولائهم، ممحصة في مودتهم ولها عندهم الجاه الوجيه والمحل الرفيع([9]).

 

وقامت السّيّدة أُمّ البنين بعد زواجها من أمير المؤمنين برعاية سبطي رسول الله صلّى الله عليه وآله وريحانتيه وسيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحُسين عليهما السّلام، وقد وجدا عندها من العطف والحنان ما عوّضهما من الخسارة الأليمة التّي مُنيا بها بفقد أمّهما سيّدة نساء العالمين. إذ كانت  تكنّ في نفسها من المودّه والحبّ للحسن والحُسين عليهما السّلام ما لا تكنّه لأولادها الذّين كانوا ملء العين في كمالهم وآدابهم، وقدّمت أُمّ البنين أبناء رسول الله صلّى الله عليه وآله، على أبنائها في الخدمة والرّعاية، ولم يعرف التّاريخ أن ضرّة تخلص لأبناء ضرّتها وتقدّمهم على أبنائها سوى هذه السّيّدة الزّكيّة، فقد كانت ترى ذلك واجباً دينياً لأن الله أمر بمودّتهما في كتابه الكريم، وهما وديعة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وريحانتاه، وقد عرفت أُمّ البنين ذلك فوفت بحقّهما وقامت بخدمتهما خير قيام، إذ أفنت حياتها كلها في تربية الحسن والحُسين سيدي شباب أهل الجنة عليهما السّلام، ثم أنّها قد انجبت الفارس الهمام الذي كان ينتظره أمير المؤمنين عليه السلام ورفدته بثلاثة إخوة فأصبحوا قمرا وثلاثة نجوم أناروا ظلمة الطف على إمامهم الحسين وفاء ونصرة([10]).

 

وكانت أُمّ البنين من أول النّاس الذّين خرجوا لاستقبال بشر بن حذلم، وهو ينادي برفيع صوته:

 

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها * قتل الحُسين فأدمعي مدرار

 

الجسم منه بكربلاء مضرج * والرّأس منه على القناة يدار

 

ولما وقع بصرها على النّاعي لم تسأله عن العباس، ولا عن أي واحد من أبنائها الذّين قتلوا مع أخيهم الحُسين، وإنما سالتّه عن الحُسين، وعلت الدّهشة وجه بشر بن حذلم عندما عرف أن هذه المرأة هي فاطمة بنت حزام ، وهي أُمّ البنين بالذّات كيف لا تسأله عن أولادها ؟؟؟ وظنها لوقع الصّدمة ذهلت عن أبنائها، فراح يعددهم واحداً بعد الآخر، وفي كل واحد منهم كان يعزيها ويقول لها: عظم الله لك الأجر بولدك جعفر. فتقول: أخبرني عن ولدي الحُسين عليه السّلام. ولم يلتفت بشر إلى هذا الموقف وراح يخبرها ببقية أولادها، إلى أن وصل إلى العباس، فما كاد يخبرها بقوله: يا أُمّ البنين عظم الله لك الأجر بولدك أبي الفضل العبّاس عليه السّلام, حتى نظر إليها وقد اعتراها اضطراب شديد في تلك اللحظة التّي سمعت فيها نبأ مصرع أبي الفضل العباس، بحيث اهتز بدنها ولكنها تحاملت واستمرت في إلحاحها على بشر؛ أخبرني عن ولدي الحُسين؟([11]).

 

وهذا موقف آخر وما أكثر مواقفها المشرفة: قيل إن أُمّ البنين أتت ذات يوم إلى أمير المؤمنين وقالت له: لي إليك حاجة... قال لها: قولي ما عندك.

 

قالت: أنا أطلب منك أن تغير اسمي، قالت عندما تناديني فاطمة، أرى الانكسار بادياً على وجوه الحسن والحُسين وزينب، فإنهم يذكرون أمهم فاطمة الزّهراء عليهم السّلام ويتألمون فما كان من الإمام إلا أن غير اسمها وسماها أُمّ البنين. هذه المواقف المثيرة من أُمّ البنين، وقد ملئ قلبها بالإيمان والمحبة والإخلاص([12]).

 

ومن العرفان بالجميل ومقابلة الإحسان بمثله... ورد عن الزّهراء سلام الله عليها يوم الحشر تخرج من تحت عباءتها كفين مقطوعين وهما كفا أبي الفضل العبّاس عليه السّلام وتقول: يا عدل يا حكيم احكم بيني وبين من قطع هذين الكفين([13])

 

فقدمت من التضحيات حتى نالت من الكرامة ما نالت حتى خُلدت حرة مؤمنة طائعة ولاة أمرها، صابرة على ما كتب الله، فسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث حيث لقاء الصالحين.

الهوامش:

([1]) سورة يوسف: 53.

([2]) نهج البلاغة، تحقيق: د. صبحي الصالح

([3]) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الخوئي: 13/ 36.

([4]) سورة الانعام: 89- 90.

([5]) روضة الواعظين، الفتال النيسابوري: 151.

([6]) ينظر: السيدة الزهراء عليها السلام، محمد بيومي: 101.

([7]) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، حمد بن علي الحسيني ابن عنبة  (ت: 828ه): 356.

([8]) ينظر: أم البنين باب الحوائج، عباس جاسم سلمان: 7.

([9]) ينظر: فاطمة بنت حزام الكلابية، حسين الشيخ هادي القرشي: 19.

([10]) ينظر: أعيان الشيعة: 1/ 326.

([11]) ينظر:  مقتل الحسين عليه السلام، أبو مخنف الأزدي: هامش 239، واللهوف على قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس: 115، وأعيان الشيعة: 1/ 617.

([12]) ينظر: منتهى الآمال، للشيخ عباس القمي: 689، وأم البنين، السيد سلمان هادي آل طعمة: 46.

([13]) ينظر: عمدة الطالب :357 وقاموس الرجال للتستري :10 /389 و 390 ، وأعيان الشيعة للسيد محسن الأمين :7 /429 و8 /389 والأنوار العلوية :442.

المقالة السابقة المقالة التالية

Execution Time: 0.2648 Seconds