خُطَى الخزاعي
كانت اليد الألهية تُعِدُّ أمرًا في أحد بيوتات فحولة العرب من بني كلاب، وترسم بريشتها المُعجِزَة شيئًا من ملامح قمرٍ يتلو شمسًا في زمن آتٍ فيبددانِ ما يَستحكِم فيه من ظلمات، وشاء الربُّ أن يظهرَ أمره على لسان أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) حين سأل_ وهو العالم_ أخاه عقيلًا( وكان نسابةً عالمًا بأخبارِ العرب وأنسابهم ابغني امرأةً قد ولدتها الفحولةُ من العرب لأتزوجَها فتلدَ ليَ غلامًا فارسًا فقال له: أينَ أنتَ عن فاطمةَ بنت حزامِ بن خالدٍ الكلابية فإنه ليسَ في العربِ أشجعُ من آبائها ولا أفرس)([1])، وببيانه علة هذا الزواج ، كشف (سلام الله عليه) عن أمر غيبي وعناية إلهية باتجاه إعداد شخصية لها من الثقل في قابل الأيام القَدر الكبير، فكانت أم البنين فاطمة بنت حزام (عليها السلام) عنصرًا مهمًا في دائرة الإعداد الإلهي تلك، وما كانت لتدخلها إلّا لأنَّها كانت ذاتَ أهليةٍ واستحقاق، إذ حازت (عليها السلام) رُّتبًا عاليةً في الخُلق والدين، ووصلت باعتقادها بحق أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) ومقام فاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) إلى أعلى درجات اليقين، مترجمة ًهذا الاعتقاد بكيفية تعاملها مع ذريتهم الطاهرة (سلام الله عليهم)، منذ لحظاتها الأولى في بيت أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) والى آخر أيام حياتها، لينعكسَ الأثر من حال أهل البيت (عليهم السلام) تجاهها؛ فكانت عندهم محلَ إجلالٍ واعتزازٍ وموضعَ تقديرٍ وترحيبٍ، وتحينُ لحظةُ التكريم الإلهي لتلك السيدة الجليلة وتصبح وعاءً يحملُ ثقلَ الناصرِ لأخيه الحسين(عليهما السلام)، فيولد ذاك الغلام الفارس الذي تنبأ به أمير المؤمنين ( عليه السلام)، والقمر المنتظر الموعودة به في منامها، جامعًا للفضل من جهتيه، مردِفةً إياه بثلاثة كواكبٍ، فتمدُّ النصرةُ من جهات أربعٍ، في يوم فجيعةٍ ليس كمثله يوم، مقدِّمةً بنيها الأربعة قرابينَ فداء أمام السبط أبي عبد الله الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، بموقف تعجز عن تفسيره العقول وتذهل عن تأويله الأفهام؛ إلّا أن يقال بأنَّ تلك السيدة قد وصلت في الاعتقاد رتبةً لا نتصورها، ومنزلة في التسليم والرضا لا نتعقلها، كشف بعض منها ذلك الموقف العصيب، حين استقبلت ناعي أبي عبد الله الحسين بدهشة وذهول، وهو يخبرها باستشهاد أولادها تباعًا وفي كل مرة تعترضه بالسؤال عن حال الحسين (عليه السلام)، منصرفةَ الذهن عن خبر مصرع أولادها نحو الحسين ( عليه السلام) لا غير([2])، جاعلةً من فلذات كبدها فداءً هيّنًا مقارنةً بقيمة المُفدى، وإن كانت ترى بفقدهم بمعزلٍ عن هذه المقارنة وباستثناء فقد أبي عبد الله (صلوات الله وسلامه عليه) أوجع الفقد، وخصوصًا أبي الفضل العباس (عليه السلام)، الذي ما فتئت تبكيه وتندبه، وممَّا ذُكِر من ندبتها إياه أنَّها كانت تخرج إلى البقيع كل يوم ترثيه وتحمل ولده عبيد الله فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة فيبكون من ألم تفجعها وكان ممّا تقول:
يا من رأى العباس كر * على جماهير النقد
ووراه من أبناء حيدر * كل ليث ذي لبد
أنبئت أن ابني أصيب * برأسه مقطوع يد
ويل على شبلي أما * ل برأسه ضرب العمد
لو كان سيفك في يد * يك لما دنا منه أحد
ومن ندبتها أيضًا:
لا تدعوني ويك أم البنين * تذكريني بليوث العرين
كانت بنون لي أُدعى بهم * واليوم أصبحت ولا من بنين
أربعة مثل نسور الربى * قد واصلوا الموت بقطع الوتين
تنازع الخرصان أشلائهم * فكلهم أمسى صريعا طعين
يا ليت شعري أكما أخبروا * بأن عبّاسا قطيع اليمين)([3])
وبمواقفها الكبيرة تلك أصبحت (سلام الله عليها) معلمًا بارزًا من معالم البرِّ بقربى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومثالًا عَزَّ تكراره في الوفاء والتضحية، لتغدقَ عليها يدُ الجزاء الإلهي لقاءَ حُسنِ بلائها شفاعةً ووجاهةً في الدنيا والآخرة، فسلامٌ عليها متصلٌ ورحمة الله وبركاته.
الهوامش:
[1])) أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين( المتوفى: 1371): 7/ 429
[2])) ينظر: المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة، السيد شرف الدين (المتوفى: 1377): 245
[3])) ينظر: مقتل الحسين ( ع )، أبو مخنف الأزدي (المتوفى :157ه):181