الباحث: عماد طالب موسى
الحمد لله الذي يجزي المؤمنين؛ إذ قال فيهم: (( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ))([1]) ، والصلاة والسلام على نبيه وآله الذين قال فيهم:((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ))([2]).
تحتلُّ أوَّليَّةُ الأمور ميزة السبق فتكون الفضيلة بحسب ثمرة موضوعها فتحدد أفضليتها ومكانتها في ممارسات الحياة الاجتماعية بصورة عامة، ولكن كيف إذا كانت ماهية هذه الأولية في تثبيت دعائم الدين وتشييد أسسه! لا جرم أنها أولية ما بعدها شيء، وقد خطَّ القرآن الكريم لهم منزلة بقوله: (( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ))([3]) ، إذ هناك ثُلَّةٌ من أصحابِ الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته قد جنوا ثمار هذه المنقبة بسبقهم في الإسلام والجهاد؛ ولكن لكلِّ ثُلَّةٍ هناك (أوَّل) يتقدَّمُهم بوصفه أسبقهم، وأثبتهم، وأعلمهم فيؤطر منزلة (الأول) بشهادة الجميع.
لا شكَّ أنكم علمتم الشخصية التي نروم أن نطوف برياض فضلها، وعبق علمها، وريادة أسبقيتها في الإسلام حتى أصبحت الشخصية الأولى بكُلِّ شيءٍ، إنَّه أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب عليه السلام، ونود أن نتحدث في هذا الموقف عن المناقب التي خُصَّ الإمام عليٌّ عليه السلام بها وحده فكانت له سمة يُعرف بها ولا يقوى على نكرانها أحد، على أنَّ هناك مناقب قد تفرَّدَ بها الإمام علي عليه السلام دون سواه فهي – المناقب- أختص بها فقط ولم تكن للذين سبقوه ولا الذين جاءوا بعده مذ خلق الله السماوات والأرض، ومن هذه المناقب معجزة ولادته عليه السلام الميمونة؛ إذ وُلِدَ الإمام عليٌّ عليه السلام في يوم الجمعة([4]) الثالث عشر من شهر رجب([5]) بعد ثلاثين سنة من عام الفيل([6]) في الكعبة المكرّمة([7]) .
قال العلاّمة الأميني في مولد الإمام ( عليه السلام ) وفي فضيلته التي لا بديل لها: ((وهذه حقيقة ناصعة أصفق على إثباتها الفريقان ، وتضافرت بها الأحاديث ، وطفحت بها الكتب ، فلا نعبأ بجلبة رماة القول على عواهنه بعد نصّ جمع من أعلام الفريقين على تواتر حديث هذه الأثارة))([8])
وهذا توقيف إلهي لا يمكن أن يسوف لأمر آخر سوى الإشارة إلى أنَّ هذا المولود قد خُصَّ برعاية إلهية ليكون من المُخْلَصين الذين تجب طاعتهم؛ لأنهم من حماة الدين وبُنَاتِه؛ إذ (( إن الله تعالى قد شق جدار الكعبة لوالدته عليه السلام حين دخلت ، وحين خرجت ، بعد أن وضعته في جوف الكعبة - وقد جرى هذا الصنع الإلهي له - حيث كان عليه السلام لا يزال في طور الخلق والنشوء في هذا العالم الجديد . . ليدل دلالة واضحة على اصطفائه له ، وعلى عنايته به . .وذلك من شأنه أن يجعل أمر الاهتداء إلى نور ولايته أيسر ، وليكون الإنسان في إمامته أبصر))([9])، فكانت (( ولادته ( عليه السلام ) ، في الكعبة المشرفة ، إنما هي أمر صنعه الله تعالى له ، لأنه يريد أن تكون هذه الولادة رحمة للأمة ، وسبباً من أسباب هدايتها . . وليست أمراً صنعه الإمام علي ( عليه السلام ) لنفسه ، ولا هي مما سعى إليه الآخرون ، ليمكن اتهامهم بأنهم يدبرون لأمر قد لا يكون لهم الحق به ، أو التأييد لمفهوم اعتقادي ، أو لواقع سياسي ، أو الانتصار لجهة أو لفريق بعينه ، في صراع ديني ، أو اجتماعي ، أو غيره . ..))([10]).
وقد يتساءل بعضهم لماذا خُصَ الإمام عليٌّ عليه السلام بهذه الولادة، ولم تكن لرسول الله صلى الله عليه وآله؟. والجواب واضح؛ إذ جرت الحكمة الإلهية أن تقدم معادلة لطيفة المقال، خفيفة الكاهل على الأنام، فقد بعث الله سبحانه نبيَّه محمد صلى الله عليه وآله بالهدى والبينات ومعه الحجج الدامغة والمعجزة الكبرى وهو القرآن الكريم، وإن معجزته الظاهرة التي تهدي الناس إلى الله تعالى ، وصفاته ، وإلى النبوة والنبي ، وتدلهم عليه ، وتؤكد صدقه ، ولزوم الإيمان به ، وتأخذ بيدهم إلى الإيمان باليوم الآخر، وهو يهدي إلى الرشد من أراده، والذي لا بد أن يدخل هذه الحقائق إلى القلوب والعقول أولاً، من باب الاستدلال، والانجذاب الفطري إلى الحق بما هو حق . . من دون تأثر بالعاطفة، وبعيداً عن احتمالات الانبهار بأية مؤثرات أخرى مهما كانت . ..
أما ولادة الإمام علي عليه السلام ، في الكعبة المشرفة ، هي لطف ، بالأمة بأسرها ، حتى أولئك الذين وترهم الإسلام منها ، وسبيل هداية لهم ولها ، وهو سبب انضباط وجداني ، ومعدن خير وصلاح ، ينتج الإيمان ، والعمل الصالح ، ويكف من يستجيب لنداء الوجدان ، عن الامعان في الطغيان ، والعدوان ، وعن الانسياق وراء الأهواء ، والعواطف ، من دون تأمل وتدبر . .
وغني عن البيان، أن مقام الإمام علي عليه السلام وفضله، أعظم وأجل من أن تكون ولادته عليه السلام، في الكعبة سبباً أو منشأ لإعطاء المقام والشرف له؛ بل الكعبة هي التي تتشرف به وتعتز، وتزيد في قداستها، وتتأكد حرمتها بولادته فيها صلوات الله وسلامه عليه، فالنبي والإمام (صلوات الله عليهم) طرفا المعادلة غير أن الأول قد قُدِّم بالمعجز، والآخر خصَّ بالعناية الإلهية والإشارات التي تند عن أهمية هذا الإمام ومكانته.
الهوامش:
([1]) سورة الأنبياء: 101- 103.
([2]) سورة الفتح: من الآية 29.
([3]) سورة الواقعة: 10- 11.
([4]) ينظر: تهذيب الأحكام: 6/ 19، والإرشاد : 1/ 5، والمقنعة: 461.
([5]) ينظر: تهذيب الأحكام : 6 / 19 ، الإرشاد : 1 / 5 ، المقنعة : 461 ، خصائص الأئمّة ( عليهم السلام ) : 39 ، مصباح المتهجّد : 805 ، كشف اليقين : 31 ، العمدة : 24 ، المصباح للكفعمي : 678 ، وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري: 1/ 72.
([6]) ينظر: لكافي : 1 / 452 ، تهذيب الأحكام : 6 / 19 ، الإرشاد : 1 / 5 ، المقنعة : 461 ، خصائص الأئمّة ( عليهم السلام ) :39 ، وكشف اليقين : 31 ، والعمدة : 24 ، وتاج المواليد : 88 ، والمستجاد : 294 ، وروضة الواعظين : 87_ 92 ، والمناقب لابن شهر آشوب : 3 / 307 ، وعمدة الطالب : 58 ، وإعلام الورى : 1 / 306 ، وكشف الغمّة : 1 / 59 ، الفصول المهمّة : 29 ، كفاية الطالب : 407 ، وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري: 1/ 72.
([7]) ينظر: تهذيب الأحكام : 6 / 19 ، المقنعة : 461 ، الإرشاد : 1 / 5 ، خصائص الأئمّة ( عليهم السلام ) : 39 ، مصباح المتهجّد : 805 ، الأمالي للطوسي : 707 / 1511 ، العمدة : 24 ، وكشف اليقين : 31 ، كنز الفوائد :1 / 255 ، والمصباح للكفعمي : 678 ، وروضة الواعظين : 87 ، وإرشاد القلوب : 211، المناقب لابن شهر آشوب : 2 / 175 و ج 3 / 307 ، عمدة الطالب : 58 ، وكشف الغمّة : 1 / 59 ، إعلام الورى : 1 / 306 ؛ مروج الذهب : 2 / 358 ، المناقب لابن المغازلي : 7 / 3 ، تذكرة الخواصّ : 10، الفصول المهمّة : 29 ، كفاية الطالب : 407 ، مطالب السؤول : 11 .
([8]) الغدير، الشيخ الأميني: 6/ 22.
([9]) مختصر المفيد، السيد جعفر مرتضى العاملي: 6/ 53.
([10]) مختصر المفيد، السيد جعفر مرتضى العاملي: 6/ 52.