أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بين الآهات والواهات (قراءة في نهج البلاغة) (1):

فضائل الإمام علي عليه السلام

أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بين الآهات والواهات (قراءة في نهج البلاغة) (1):

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 13-01-2019

أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بين الآهات والواهات (قراءة في نهج البلاغة) (1):

عمَّار حسن الخزاعي:

 

الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين.

 

أوه: آهِ: حكاية المُتَأَوِّه في صوته، يفعله الإنسان عندما يتوجَّع فيخرج هذا الصَّوت ليُفرِّج عنه ما به من ألم وحسرة([1])، ((وربَّما شدّدوا الواو وكسروها وسكّنوا الهاء فقالوا: أَوّه من كذا، وربَّما حذفوا مع التشديد الهاء فقالوا: أَوِّ مِن كذا، بلا مدٍّ، وبعضهم يقول: آوَّهْ بالمدّ والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاء، لتطويل الصوت بالشكاية. وربَّما أدخلوا فيه التاء فقالوا: أَوَّتاهُ، يُمَدُّ ولا يُمَدُّ. وقد أَوَّهَ الرجل تَأْويهاً، وتَأَوَّهَ تَأَوُّهاً، إذا قال أَوَّهْ))([2])، وهو اسم فعل مضارع بمعنى أَتوجع([3])، ((وفيه لغات أخر: أوَّهْ، أوِّهِ، آوْهْ، أوَّهِ، أوَّتَاهْ، آوَّتَاهُ، آهْ، آهِ، أَوِّ، آوِّ، أووه، أَوَأَهْ))([4]) .

 

وأسماء الأفعال: ((ألفاظ تقوم مقام الأفعال في الدلالة على معناها وفي عملها وتكون بمعنى الأمر وهو الكثير فيها كمه بمعنى اكفف وآمين بمعنى استجب وتكون بمعنى الماضي كشتان بمعنى افترق... بمعنى المضارع كأوه بمعنى أتوجع))([5]) .

(آه، واه): كلمتان موجعتان، لا تُقالان إلَّا عند الحسرة والألم وعند تفاقم اللوعة بحيث يمتلئ الصدر بها، ثمَّ تتفاقم أكثر حتَّى لا يسعها الصدر فتنفجر لتخرج آهات بزفراتٍ طويلة .

 

وهذه الآهات تختلف باختلاف الظروف والأشخاص، إذ هناك من الأشخاص من تكون آهاته على طرف مصائبه بحيث يزفرها بأوِّل ألم، وهناك من يكتم آهاته فلا يدع لها سبيل؛ لما يمتلك من طاقة في التحمُّل وسعةٍ في الصدر فلا تظهر آهاته إلَّا مع عظيم المصائب وشدَّة الألم، ومثل هكذا أشخاص يكونون قلَّةً بين الناس؛ لأنَّ كتمان الآه يحتاج إلى شدَّةٍ في البأس وإيمان راسخٍ لا يتزعزع .

 

وأحيانًا مع شدَّة البأس ورسوخ الإيمان وصلابة الموقف تنفذُ بعض الآهات من شدَّة الحسرات وعظم المصائب، فأيُّ أحدٍ أشدُّ من عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) في قوَّة المراس، ورسوخ الإيمان، فهو ذلك البطل الذي يعدُّ الإفلات من يديه في ساحات الوغى نصرًا مؤزَّا وشجاعةً قصوى، وهو الصنديد الذي لا ينثني، ولم يعرف له التاريخ يومَ نُكْلٍ أو تزعزع، وهو الصبور في الشدائد الذي لا يلين أبدًا، وقد بيَّن عظيم صبره في مواضع عدَّةٍ في نهج البلاغة، ومنها قوله (عليه السلام): ((فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرتُ وَفي الْعَيْنِ قَذىً، وَفي الحَلْقِ شَجاً، أرى تُرَاثي نَهْباً))([6])، وقوله: ((فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ، وَشِدَّةِ الْمحْنَةِ))([7])، وقوله: ((وَأَغْضَيْتُ عَلَى القَذَى، وَشَرِبْتُ عَلَى الشَّجَا، وَصَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ الكَظَمِ، وَعَلىْ أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ العَلْقَمِ))([8])، ((فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ، وَلاَ ذَابٌّ وَلاَ مُسَاعِدٌ، إِلاَّ أَهْلَ بَيْتِي، فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ، فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذى، وَجَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا، وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الغَيْظِ عَلى أَمَرَّ مِنَ العَلْقَمِ، وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ خَزِّ الشِّفَارِ))([9]) .

 

فهكذا قلبٌ يصبر على شدَّةِ المحنة، وعلى مصائب طعمها أشدّ من العلقم، وعلى ألمٍ أشد من خزِّ الشفار، لهو قلبٌ يصعب أن تصدر منه آهات لشدَّة مراسه، ولكن مع هذا الصبر وتلك الشجاعة، وذلك الإيمان الراسخ صدرت من عليٍّ آهات وواهات، وما ذلك إلَّا من عظيم ما ناله من ألم في دنياه، لقد آلمه المتأسلمون حتَّى امتلئ صدره بالمآسي وقلبه بالآلام فقال (صلوات الله عليه وسلامه) معبِّرًا عمَّا أصابه: ((قَاتَلَكُمُ اللهُ! لَقَدْ مَلاَتُمْ قَلْبِي قَيْحاً، وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً، وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً))([10]) .

 

ثمَّ قسوا عليه بجهلهم وكفرهم ونفاقهم حتَّى صارت آهاته مقرونةً بأنفاسه، وصار يتنفسُّ آلامًا وحسرةً من ظلم الأصحاب وكيد الأعداء، ومن آهاته التي أطلقها حسرةً على أصحابه الذين استشهدوا في معاركه قوله (عليه السلام): ((أَوْهِ عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ، وَأمَاتُوا الْبِدْعَةَ، دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوا))([11])، ومن الآهات كلماته التي سُمِّيت فيما بعد بالخطبة الشقشقية، وقد عبَّر عنها: ((تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ))([12])، ويكفي علي بن أبي طالب (عليه السلام) في وصف الظلم والحيف الذي أصابه أن يكون أوَّل من يجثوا للخصومة بين يدي الله تعالى، وقد ورد ذلك في حديثٍ مستفيض رُوي عنه (عليه السلام): ((أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ))([13]) .

سنقف إلى هنا على أملٍ أن نستمر بسلسةٍ من المقالات نتعرَّضُ فيها إلى آهات أمير المؤمنين (عليه السلام) وواهاته في نهج البلاغة، ونحاول بيان تلك الآهات على شكلٍ مقالات متعدِّدة ومن الله تعالى التوفيق .

 

                                                       يتبع...

 

الهوامش:

([1]) ينظر: كتاب العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (المتوفى: 170هـ)، د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال: 4/104 ، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفى: 393هـ)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين – بيروت، الطبعة: الرابعة 1407 هـ‍ - 1987 م: 6/2225 .

([2]) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفى: 393هـ)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين – بيروت، الطبعة: الرابعة 1407 هـ‍ - 1987 م: 6/2225 ، سفر السعادة وسفير الإفادة، علي بن محمد بن عبد الصمد الهمداني المصري الشافعي، أبو الحسن، علم الدين السخاوي (المتوفى: 643 هـ)، تحقيق: د. محمد الدالي، تقديم: د. شاكر الفحام (رئيس مجمع دمشق)، دار صادر، الطبعة: الثانية، 1415 هـ - 1995 م: 1/127 – 128 .

([3]) ينظر: توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك، أبو محمد بدر الدين حسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي المصري المالكي (المتوفى : 749هـ)، شرح وتحقيق : عبد الرحمن علي سليمان ، أستاذ اللغويات في جامعة الأزهر، دار الفكر العربي، الطبعة : الأولى 1428هـ - 2008م: 1/177 ، الموجز في قواعد اللغة العربية، سعيد بن محمد بن أحمد الأفغاني (المتوفى : 1417هـ)، دار الفكر - بيروت – لبنان، 1424هـ - 2003م: 377 .

([4]) توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك: 1/116

([5]) شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، ابن عقيل ، عبد الله بن عبد الرحمن العقيلي الهمداني المصري (المتوفى : 769هـ)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار التراث - القاهرة، دار مصر للطباعة ، سعيد جودة السحار وشركاه، الطبعة : العشرون 1400 هـ - 1980 م: 3/302 – 303 .

([6]) نهج البلاغة: 31 .

([7]) المصدر نفسه: 32 .

([8]) المصدر نفسه: 62 .

([9]) المصدر نفسه: 466 .

([10]) نهج البلاغة: 66

([11]) المصدر نفسه: 361 .

([12]) المصدر نفسه: 36 .

 ([13])صحيح البخاري: 5/75 ، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أحمد البيهقي: 3/73، التفسير الكبير، الفخر الرازي: 23/21 ، سعد السعود، السيد ابن طاووس: 102 ، شرح صحيح مسلم ، النووي: 18/166 ، الدر المنثور: 6/19 ، بحار الأنوار: 19/ 313 ، البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني: 3/862 ، نيل الأوطار، الشوكاني: 8/86.

المقالة السابقة المقالة التالية

Execution Time: 0.2383 Seconds