الباحث: محمد حمزة عباس
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد
أمر سبحانه وتعالى أنبيائه وحججه بأن يحكموا بين الناس بالعدل وأن لا يتبعوا الهوى وإنما يحكمون بما أوتوا من العلم قال تعالى لداود: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[1].
فقد آتي سبحانه أنبيائه الحكمة وفصل الخطاب ليفصلوا بين الحق والباطل قال تعالى حاكيا عن داود النبي: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}[2]، جاء في البحار: (أي الخطاب الفاصل بين الحق والباطل)[3]، فكان صلوات الله وسلامه عليه يحكم بين الناس بالقسط كما حكم قبله الانبياء السابقون.
وقد أُعطي أمير المؤمنين ما أُعطي نبي الله داود بل زاده الله شرفا وتعظيما، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (اعطيت تسعا، لم يعطها أحد قبلي سوى رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقد فتحت لي السبل، وعلمت المنايا والبلايا والانساب وفصل الخطاب، ولقد نظرت إلى الملكوت بإذن ربي فما غاب عني ما كان قبلي ولا ما يأتي بعدي، فإن بولايتي أكمل الله لهذه الأمة دينهم وأتم عليهم النعم ورضي لهم الإسلام)[4].
وقد شاء القدر أن يقضي أمير المؤمنين بقضية مشابه قد قضى بها نبي الله داود من قبل ففي رواية رواها الكليني عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السالم) قَالَ: (دَخَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السلام) الْمَسْجِدَ فَاسْتَقْبَلَه شَابٌّ يَبْكِي وحَوْلَه قَوْمٌ يُسْكِتُونَه فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) مَا أَبْكَاكَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ شُرَيْحاً قَضَى عَلَيَّ بِقَضِيَّةٍ مَا أَدْرِي مَا هِيَ إِنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ خَرَجُوا بِأَبِي مَعَهُمْ فِي السَّفَرِ فَرَجَعُوا ولَمْ يَرْجِعْ أَبِي فَسَأَلْتُهُمْ عَنْه فَقَالُوا مَاتَ فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ مَالِه فَقَالُوا مَا تَرَكَ مَالاً فَقَدَّمْتُهُمْ إِلَى شُرَيْحٍ فَاسْتَحْلَفَهُمْ وقَدْ عَلِمْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أَبِي خَرَجَ ومَعَه مَالٌ كَثِيرٌ فَقَالَ لَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) ارْجِعُوا فَرَجَعُوا والْفَتَى مَعَهُمْ إِلَى شُرَيْحٍ فَقَالَ لَه أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَا شُرَيْحُ كَيْفَ قَضَيْتَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ادَّعَى هَذَا الْفَتَى عَلَى هَؤُلَاءِ النَّفَرِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِي سَفَرٍ وأَبُوه مَعَهُمْ فَرَجَعُوا ولَمْ يَرْجِعْ أَبُوه فَسَأَلْتُهُمْ عَنْه فَقَالُوا مَاتَ فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ مَالِه فَقَالُوا مَا خَلَّفَ مَالاً فَقُلْتُ لِلْفَتَى هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا تَدَّعِي فَقَالَ لَا فَاسْتَحْلَفْتُهُمْ فَحَلَفُوا فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) هَيْهَاتَ يَا شُرَيْحُ هَكَذَا تَحْكُمُ فِي مِثْلِ هَذَا فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَكَيْفَ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) واللَّه لأَحْكُمَنَّ فِيهِمْ بِحُكْمٍ مَا حَكَمَ بِه خَلْقٌ قَبْلِي إِلَّا دَاوُدُ النَّبِيُّ (عليه السلام) يَا قَنْبَرُ ادْعُ لِي شُرْطَةَ الْخَمِيسِ فَدَعَاهُمْ فَوَكَّلَ بِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجُلاً مِنَ الشُّرْطَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى وُجُوهِهِمْ فَقَالَ مَا ذَا تَقُولُونَ أتَقُولُونَ إِنِّي لَا أَعْلَمُ مَا صَنَعْتُمْ بِأَبِي هَذَا الْفَتَى إِنِّي إِذاً لَجَاهِلٌ ثُمَّ قَالَ فَرِّقُوهُمْ وغَطُّوا رُؤُوسَهُمْ قَالَ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمْ وأُقِيمَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى أُسْطُوَانَةٍ مِنْ أَسَاطِينِ الْمَسْجِدِ ورُؤُوسُهُمْ مُغَطَّاةٌ بِثِيَابِهِمْ ثُمَّ دَعَا بِعُبَيْدِ اللَّه بْنِ أَبِي رَافِعٍ كَاتِبِه فَقَالَ هَاتِ صَحِيفَةً ودَوَاةً وجَلَسَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْه فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وجَلَسَ النَّاسُ إِلَيْه فَقَالَ لَهُمْ إِذَا أَنَا كَبَّرْتُ فَكَبِّرُوا ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ اخْرُجُوا ثُمَّ دَعَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَجْلَسَه بَيْنَ يَدَيْه وكَشَفَ عَنْ وَجْهِه ثُمَّ قَالَ لِعُبَيْدِ اللَّه بْنِ أَبِي رَافِعٍ اكْتُبْ إِقْرَارَه ومَا يَقُولُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْه بِالسُّؤَالِ فَقَالَ لَه أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي أَيِّ يَوْمٍ خَرَجْتُمْ مِنْ مَنَازِلِكُمْ وأَبُو هَذَا الْفَتَى مَعَكُمْ فَقَالَ الرَّجُلُ فِي يَوْمِ كَذَا وكَذَا قَالَ وفِي أَيِّ شَهْرٍ قَالَ فِي شَهْرِ كَذَا وكَذَا قَالَ فِي أَيِّ سَنَةٍ قَالَ فِي سَنَةِ كَذَا وكَذَا قَالَ وإِلَى أَيْنَ بَلَغْتُمْ فِي سَفَرِكُمْ حَتَّى مَاتَ أَبُو هَذَا الْفَتَى قَالَ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا وكَذَا قَالَ وفِي مَنْزِلِ مَنْ مَاتَ قَالَ فِي مَنْزِلِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قَالَ ومَا كَانَ مَرَضُه قَالَ كَذَا وكَذَا قَالَ وكَمْ يَوْماً مَرِضَ قَالَ كَذَا وكَذَا قَالَ فَفِي أَيِّ يَوْمٍ مَاتَ ومَنْ غَسَّلَه ومَنْ كَفَّنَه وبِمَا كَفَّنْتُمُوه ومَنْ صَلَّى عَلَيْه ومَنْ نَزَلَ قَبْرَه فَلَمَّا سَأَلَه عَنْ جَمِيعِ مَا يُرِيدُ كَبَّرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وكَبَّرَ النَّاسُ جَمِيعاً فَارْتَابَ أُولَئِكَ الْبَاقُونَ ولَمْ يَشُكُّوا أَنَّ صَاحِبَهُمْ قَدْ أَقَرَّ عَلَيْهِمْ وعَلَى نَفْسِه فَأَمَرَ أَنْ يُغَطَّى رَأْسُه ويُنْطَلَقَ بِه إِلَى السِّجْنِ ثُمَّ دَعَا بِآخَرَ فَأَجْلَسَه بَيْنَ يَدَيْه وكَشَفَ عَنْ وَجْهِه ثُمَّ قَالَ كَلَّا زَعَمْتُمْ أَنِّي لَا أَعْلَمُ مَا صَنَعْتُمْ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَنَا إِلَّا وَاحِدٌ مِنَ الْقَوْمِ ولَقَدْ كُنْتُ كَارِهاً لِقَتْلِه فَأَقَرَّ ثُمَّ دَعَا بِوَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ كُلُّهُمْ يُقِرُّ بِالْقَتْلِ وأَخْذِ الْمَالِ ثُمَّ رَدَّ الَّذِي كَانَ أَمَرَ بِه إِلَى السِّجْنِ فَأَقَرَّ أَيْضاً فَأَلْزَمَهُمُ الْمَالَ والدَّمَ فَقَالَ شُرَيْحٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وكَيْفَ حَكَمَ دَاوُدُ النَّبِيُّ (عليه السلام) فَقَالَ إِنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ (عليه السلام) مَرَّ بِغِلْمَةٍ يَلْعَبُونَ ويُنَادُونَ بَعْضَهُمْ بِيَا مَاتَ الدِّينُ فَيُجِيبُ مِنْهُمْ غُلَامٌ فَدَعَاهُمْ دَاوُدُ (عليه السلام) فَقَالَ يَا غُلَامُ مَا اسْمُكَ قَالَ مَاتَ الدِّينُ فَقَالَ لَه دَاوُدُ (عليه السلام) مَنْ سَمَّاكَ بِهَذَا الِاسْمِ فَقَالَ أُمِّي فَانْطَلَقَ دَاوُدُ (عليه السلام) إِلَى أُمِّه فَقَالَ لَهَا يَا أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ مَا اسْمُ ابْنِكِ هَذَا قَالَتْ مَاتَ الدِّينُ فَقَالَ لَهَا ومَنْ سَمَّاه بِهَذَا قَالَتْ أَبُوه قَالَ وكَيْفَ كَانَ ذَاكِ قَالَتْ إِنَّ أَبَاه خَرَجَ فِي سَفَرٍ لَه ومَعَه قَوْمٌ وهَذَا الصَّبِيُّ حَمْلٌ فِي بَطْنِي فَانْصَرَفَ الْقَوْمُ ولَمْ يَنْصَرِفْ زَوْجِي فَسَأَلْتُهُمْ عَنْه فَقَالُوا مَاتَ فَقُلْتُ لَهُمْ فَأَيْنَ مَا تَرَكَ قَالُوا لَمْ يُخَلِّفْ شَيْئاً فَقُلْتُ هَلْ أَوْصَاكُمْ بِوَصِيَّةٍ قَالُوا نَعَمْ زَعَمَ أَنَّكِ حُبْلَى فَمَا وَلَدْتِ مِنْ وَلَدٍ جَارِيَةٍ أَوْ غُلَامٍ فَسَمِّيه مَاتَ الدِّينُ فَسَمَّيْتُه قَالَ دَاوُدُ (عليه السلام) وتَعْرِفِينَ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا خَرَجُوا مَعَ زَوْجِكِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَأَحْيَاءٌ هُمْ أَمْ أَمْوَاتٌ قَالَتْ بَلْ أَحْيَاءٌ قَالَ فَانْطَلِقِي بِنَا إِلَيْهِمْ ثُمَّ مَضَى مَعَهَا فَاسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ فَحَكَمَ بَيْنَهُمْ بِهَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِه وأَثْبَتَ عَلَيْهِمُ الْمَالَ والدَّمَ وقَالَ لِلْمَرْأَةِ سَمِّي ابْنَكِ هَذَا عَاشَ الدِّينُ)[5].
فهذه الأحكام التي حكم بها الأنبياء والحجج الكرام إنما هي إحياءً للدين وإعادة الحياة للمظلومين الذين ضاقت بهم الدنيا بسبب جور الظالمين.
فمن هنا نعرف مدى أهمية وجود هؤلاء الكرام فلولاهم لضاقت الدنيا بأهلها لذا لم يخلِ الله زمانًا الا وجعل فيه حجة يقيم به العدل وينشر الحق.
ونجن الآن في زمن الغيبة نفتقر الى حاكم عادل يحكم بالسوية. فنسال الله بحق وليه وحجته على خلقه أن يعجل في فرجه بحق محمد وآل محمد.
الهوامش:
[1] - ص :26.
[2] - ص: 20.
[3] - بحار الأنوار: 99 / 139.
[4] - الخصال: 415.
[5] - الكافي: 7 / 371 – 372.