بقلم: الدكتور ناجح جابر الميالي
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد
كان للملازمة بين النبي والوصي (صلوات الله عليهما) أثرها في بيان صورتهما، فتارة يصف النبي الأكرم ( صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) الوصيَّ (عليه السلام) بصفات خاصة، وتارة يصف الوصيُّ النبيَّ الأكرم ( صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) بصفاته الخاصة التي ينفرد بمعرفتها، وتتضح صور النبي الأكرم ( صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في مواضع عدة من نهج البلاغة، لكن الصورة الأبرز التي تتحدث عن كيفية تنقله في الأصلاب والأرحام وكيف خرج إلى هذه الدنيا والمجتمع الذي جاء منه، جاءت في قول أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي بيّن ما اشترك فيه النبي الأكرم (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) مع سائر الأنبياء (عليهم السلام)، وما انفرد به عنهم، يقول (عليه السلام): ((فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَع، وَأَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرّ، تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الأصْلاَبِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الأرْحَامِ; كُلَّمَا مَضَى سَلَفٌ، قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللهِ خَلَفٌ، حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ إِلَى مُحَمَّد (صلى الله عليه وآله)، فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً، وَأَعَزِّ الأرُومَاتِ مَغْرِساً، مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ، وَانْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ))([1]). مهدت أصوات النص بأدائها ومضمونها، وفي أول مطلعها وآخره لصورة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) التي اشترك بها معه سائر الأنبياء (عليهم السلام)، وانطلق النص مع مبدعه لإكمال بقية أجزاء الصورة العظيمة بعد شد المتلقي بأصواتها المنتظمة والموزعة توزيعًا يضفي في فرادته جوًّا من الإثارة للتفكر بالمعنى وتسلسله الصوتي والدلالي؛ لإقناع المتلقي بتوزيع صوت السين والفاء في الكلمة الأولى وفي آخر المطلع المشترك، وهو صوت السجع في الختام المشطور - الفاء - (سلف) و(خلف) فهو مزية واضحة بصوته وصفته الهمسية الرخوة([2])، الهادئة الجميلة التي ناسبت النهايات والاستيداع الأفضل للنبوة، الذي يلازم الهمس والهدوء في ظهوره؛ لأن الكنوز والجواهر الثمينة تودع بهمس وخفاء وهدوء، وهو الشأن الذي رافق الأنبياء حيث الخفاء في الأرحام والظهور غير المتوقع والهدوء الخفي على الناس كما في نبيَّي الله موسى وعيسى (عليهما السلام) من قصتهما المعروفة من حيث لا يتوقع الناس.
ظل هذا مع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم فهم أفضل كنوز الله وخير خلقه، ولذا ابتدأ المبدع العظيم الصورة العظيمة واختتمها بأصوات ناسب همسها المعنى وأثار صوتها نفس المطمئن المؤمن بالأنبياء؛ ليكون ختام الأنبياء قبل مجيء النبي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بصورة هي جزء من صورته، إلا أنه كان آخر صلب ضمه هو إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)([3])، إذ مد الصوت به وبالهدوء نفسه والخفاء عينه من صوتي الحاء والتاء، فصوتهما يقول للمتلقي الكرامة نفسها والفضل ذاته مع الصورة الأولى قد امتد إلى الصورة المحمدية العظيمة؛ ولأنَّه ذات الهمس الذي يجري به أمر الله - تعالى- قرنه الباث بصوتين يجري بهما النفس وليس من قوة ضغط تؤثر عليهما([4])، وتبعهما صوت لا مكان له محدد في الفم؛ بل هو حر في أماكن الفم بنطقه بحرية تامة؛ ليعلن هذا الصوت ألّا حدود لكرامة الله في عظمة الصورة المنشودة ولا مكان محدد لنبوة صاحب الصورة؛ بل تمتد امتدادًا طويلًا، فامتد بها صوت المد بعد هدوء وسكينة، وهو معنى ناسبه الصوت تمامًا، وحسب المتلقي إثارة وتأثيرًا وتأثرًا من أول قدحة صوتية يقدحها المبدع بإبداعه لرسم صورة نبي يمتد ذكره إلى آخر الدهر، ولأن هذا المستودع والاستيداع هو أحسن شيء وعلى أحسن وجه احتاجا إلى صوت يحسن ألفاظهما فاختار المبدع صوتًا من صوتين في اللغة ((لا يدخلان في بناء إلا حسنتاه؛ لأنهما أطلق الحروف وأضخمها جرسا))([5])، هما (العين والقاف) فجاءت (العين) في (استودع) و(مستودع) ليعلنا بجرسهما عن ضخامة الصورة النبوية للأنبياء وبعد تصورها في العموم يأتي الخصوص لصورة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا الصوت (العين) امتنع عن الورود مع أصوات النص الأخرى ولم يأتِ إلا مع الأصوات التي تحتاج إلى تحسين، أو تمت بصلة الحُسْنِ إلى (الاستيداع) (فَاسْتَوْدَعَهُمْ) الذي يشمل معادن عدة مع فضله وحسنه في دلالته وصوته المحسن بـ(العين) فيه أفضل المعادن الذي أخرج منه النبي العظيم بصورته الحسنة التي دل عليها حسن اللفظ المختار بأجمل صوت؛ إذ الميم بغنتها طربًا وفرحًا بقدوم أجمل الصور، والعين حيث حسن الصورة الممدود بدلالة حرف المد التالي لصوت العين؛ إذ ينبئ هذا الصوت (الألف) باتساع مخرجه وامتداد الهواء حتى ينفد([6]) عن السعة في أفق هذه الصورة وسعة أمرها ونفاد جميع الصور النبوية بعدها - ينبئ - أن هذه الصورة الحسنة بدلالة صوت (العين) خرجت من وسط العرب بالجهر، المعروف لرسالتها بعد الخفاء فهو من وسطكم كما توسط حرف العين الحلق([7])، ((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ))([8])، يتصف بالبينية بين الشدة والرخاوة ليس بالمتراخي عن دعوته الحق، ولم يكن شديدًا على الناس وهذا ما اتصف به صوت العين الذي لازال يوحي بدلالات هذه الصورة ويتواشج مع تركيبها، فباستفالته أشار إلى تواضع النبي العظيم وبانفتاحه لانفتاح هذه الشخصية العظيمة على الجميع، وبإصماته على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (صمته لسان)([9]). كل هذه الصورة امتدت بأوسع الآفاق ولم تتحدد بمكان بما أعطاه حرف المد (الألف) إذ أكد أن كل هذه الدلالات ممتدة بما حواه هذا الصوت (الألف) من صفات([10])، اتحدت مع العين بجهرها وانفتاحها وإصماتها وتنفرد عنها بالخروج من الجوف؛ لتعلن أن الإيمان بهذه الصورة مكانه أعماق الإنسان، هذا اللفظ (المعادِنِ) بجميع أصواته يعلن أن هذه الصورة من وسط العرب حيث توسط صوت الألف صوتي الميم والنون وهما من الحروف التي لا تخلو منها كلمة عربية؛ لأنهما من حروف الذلاقة([11])، فالراجح أن ترتيب الأصوات يشير إلى ترتيب المعنى وأنه أضاف الترتيب إلى اختيار الأصوات المعبر عنها بالحدث تقديمًا وتأخيرًا وتوسيطًا، وهو ما لا بدعة فيه في طبيعة العلاقة بين جرس الكلمة والمعنى الذي يؤدى بها([12])، في رسم الصورة في الخطاب، فهي صورة عربية على الرغم من أن العرب كانوا أمة مضطربة الأحوال شديدة المراس انحبست نفوسهم على الشر وأصواتهم على دعوات القتال، وهو ما أعلنه صوت (الدال) بقلقلته([13]) وتكرر صوت العين في (صدع ) إذ شق الشجرة، وهو شيء فيه من الصلابة والصَلِب في الغالب ليس بالحسن فجاء صوت العين ليعطيه الحسن المناسب؛ لأنه انتخاب لأنبيائه الأمناء ليكون الربط واضحًا في الدلالة لجرسيّة هذا اللفظ، إذ إنَّ أسلوب الإمام (عليه السلام) جاء بالألفاظ التي تحتوي على قيمة ذاتية لها القدرة على إعطاء المتعة الحسية التي يجدها المتلقي مستمعًا أو قارئًا أو مرددًا، وهي متعة أتاحتها الأصوات السالفة في هذه الألفاظ من تتابع أجراسها وتوالي الأصوات التي تتألف منها في الخطاب الذي صدر من الإمام (عليه السلام). إذ يتضح أنه وقع على الأسماع محدثا من التلاؤم والموسيقية العالية التي لها التأثير المثير، فقد جاء الأسلوب وقد أعطى لكل لفظ ما يحتاجه من وصف بليغ لابد منه فكان الكلام خفيفا على اللسان مقبولا في الآذان موافقا بصورته التي يرسمها للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفس المتلقي محدثا فيها أبلغ الأثر؛ لأنَّه جاء مطابقًا لطبيعة الفكرة وتركيب الصورة التي يعبر عنها المبدع (عليه السلام) لأن الصورة التي يرسمها الإمام بلوحته الخطابية من ناحية المزايا الصوتية التي فيها ليست ((من المزايا التي يستهان بها في التعبير اللغوي وفي التعبير الأدبي بالذات لأن لذلك أثره المباشر في الإمتاع والإطراب وأثره في تحريك النفوس، وتهيئتها لقبول تأثير الصور والأفكار التي تتضمنها))([14])، هذا نمط من الصورة النبوية الخاصة التي وردت في نهج البلاغة([15])، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة: 94.
([2]) ينظر: الأصوات اللغوية: 44.
([3]) ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، الخوئي: 7/ 105.
([4]) ينظر: المدخل إلى علم أصوات العربية، د. غانم قدوري الحمد: 102- 108.
([5]) العين: 1/ 13، 1/ 53.
([6]) ينظر: علم الأصوات: 127، 434- 435، ودراسة الصوت اللغوي: 345.
([7]) ينظر: الوسيط في أحكام التجويد: 201.
([8]) سورة التوبة: 128.
([9]) نهج البلاغة: 96.
([10]) ينظر: علم الأصوات: 217، 434- 435.
([11]) ينظر: المدارس الصوتية عند العرب، د. علاء جبر محمد: 115، والأصوات اللغوية: 58 وبعدها.
([12]) ينظر: علم الدلالة التطبيقي، د. هادي نهر: 49 و53.
([13]) ينظر: المدخل إلى علم أصوات العربية، د. غانم قدوري الحمد: 120- 121.
([14]) قضايا النقد الأدبي، د. بدوي طبانه: 148.
([15]) صورة النبي في نهج البلاغة دراسة في ضوء منهج الأسلوبية التطبيقية، ناجح جابر جيخور الميالي: 45- 49.