بقلم: محمد حمزة الخفاجي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
أولاً: قوله عليه السلام:
«وَمِشْكَاةِ اَلضِّيَاءِ».
جاء في لسان العرب، المشْكاةُ: الكَوَّةُ غير النافذةِ([1])، فمن بين الأنوار الساطعة والشهب اللامعة اختاره الله لكرائم رسالاته.
قال الشارح البحراني: (استعار عليه السلام لفظة المشكاة لآل إبراهيم، ووجه المشابهة أنّ هؤلاء قد ظهرت منهم الأنبياء وسطع من بيتهم ضياء النبوّة ونور الهداية كما يظهر من نور المصباح من المشكاة)([2]).
وفي التنزيل قال تعالى:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾([3]).
جاء في تفسير الصافي ((في بيوت) أي: كمشكاة في بعض بيوت، أو توقد في بيوت. قال: (هي بيوت النبي). وفي رواية: (هي بيوتات الأنبياء والرسل والحكماء وأئمة الهدى)([4]).
وتشبيه الأنبياء بالمشكاة إذ أنهم حفظوا نور الله كما تحفظ هذه المشكاة النار من الريح ثم اختاره (صلوات الله وسلامه عليه) من بين حفظة الوحي كي يكمل الدين ويتمم النعم به، ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها اصطفاء الله لأنبيائه عامة ولرسوله خاصة قال عليه السلام:
«... واصْطَفَى سُبْحَانَه مِنْ وَلَدِه أَنْبِيَاءَ، أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ، وعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِه عَهْدَ الله إِلَيْهِمْ... ولَمْ يُخْلِ الله سُبْحَانَه خَلْقَه مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ، رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، ولَا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ، مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَه مَنْ بَعْدَه أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَه مَنْ قَبْلَه عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ ومَضَتِ الدُّهُورُ، وسَلَفَتِ الآبَاءُ وخَلَفَتِ الأَبْنَاءُ إِلَى أَنْ بَعَثَ الله سُبْحَانَه مُحَمَّداً، رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله لإِنْجَازِ عِدَتِه وإِتْمَامِ نُبُوَّتِه»([5]).
النبوة كرامة من الله يهبها الله لأحب خلقه، فكان محمد صلى الله عليه وآله خاتم رسله وأمين وحيه ومتمم رسالاته اصطفاه الله على سائر خلقه وجعله سيد الرسل وخاتمهم، فحلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة.
روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله: (أن جبريل حدثه قال: مضى من الدنيا ستة آلاف سنة وسبعمائة سنة قال وكل قطرة مطر تنزل من السماء موكل بها ملك من الملائكة يضعها موضعها قال ونبأ في الأرض من الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين وأربعين ألفا وثلاثمائة من المرسلين حتى جاء محمد صلى الله عليه وآله خاتم الأنبياء لا نبي بعده)([6]).
ثانياً: قوله عليه السلام:
«وذؤابة العلياء».
تستعار الذوابة للعز والشرف والمرتبة([7])، فمن بين أهل العز والشرف اختاره سبحانه، فأي مجد هذا وأي مكرمة ودرجة نالها نبي الرحمة حتى صار حبيب الله ونجيبه وصفيه.
ولمن أراد أن يعرف عظيم منزلته وعظيم قدره (صلوات الله وسلامه عليه) عند الله فليطّلع على حياة الأنبياء وما وصلوا له من مجد، كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فهؤلاء الأطهار أطاعوا الله حق طاعته وعملوا بأمره وبلغوا رسالته فصاروا من أولي العزم الذين فضلهم الله على سائر الرسل فذاك خليل الله وذاك كليم الله وذاك روح الله؛ فالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله لم يسبق أُناساً عاديين بل سبق العليين من الأنبياء والمرسلين والحجج الصالحين.
وكان لآبائه (صلوات الله وسلامه عليهم) مجد عريق وهم أهل السيادة والرياسة والسقاية والسدانة، فلا يوجد بالعرب أكرم وأطهر وأقدس من بني هاشم، فسبحانه وتعالى اختاره من بين هؤلاء الطاهرين، فالحديث عن هذه الشخصية العظيمة رغم وضوحها صعب، إذ لا يدرك النبي إلا الله وعلي عليه السلام ولا يعرف فضله سوى الله ووصيه.
ثالثاً: قوله عليه السلام:
«وَسُرَّةِ اَلْبَطْحَاءِ».
وقد جاء في معناه: (البطحاء الأرض المستوية والمراد هنا مكة والسرة يراد بها الوسط أي انه صلى الله عليه وآله من أفضل بيت في مكة)([8]).
كما ان الله سبحانه اختاره من بين الأنبياء والرسل فقد اختاره سبحانه من بين أهالي مكة؛ فمكة فيها أفضل البيوت منهم هاشم وعبد المطلب وأبو طالب وحمزة وجعفر فهؤلاء الطيبون لهم فضلهم ومكانتهم عند الله فهم سادات البرايا، فمن بين الأطائب اختاره سبحانه ان يكون سيدهم وقائدهم.
قال صلى الله عليه وآله: «سادة أهل محشر، سادة أهل الدنيا: أنا وعلي وحسن وحسين وحمزة وجعفر»([9]).
وهذه الرواية توضح عظيم منزلتهم وأنهم أمراء الخلق وليس في مشارق الأرض ومغاربها بيت أفضل من هذه البيوت الطاهرة.
وخطب أبو طالب عليه السلام لما تزوج النبي صلى الله عليه وآله بخديجة بنت خويلد فقال:
«الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم الخليل ومن ذرية الصفي وضئضئ مَعد وعنصر مُضر([10])، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل مسكننا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوازن برجل من قريش إلا رجح به ولا يقاس بأحد منهم إلا عظم عنه وإن كان في المال مقلا فإن المال ورق حائل وظل زائل، وله والله خطب عظيم ونبأ شائع، وله رغبة في خديجة ولها فيه رغبة فزوجوه، والصداق ما سألتموه من مالي عاجله وآجله، فقال خويلد: زوجناه ورضينا به»([11]).([12]).
الهوامش:
([1]) لسان العرب – ابن منظور / ج14 ص441.
([2]) شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني ، ج3 ، ص39 .
([3]) النور: 35 – 36.
([4]) التفسير الأصفى، الفيض الكاشاني، ج2، ص849.
([5]) نهج البلاغة الخطبة الأولى. ص34.
([6]) تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر – ج1 ص28.
([7]) ينظر، لسان العرب، ج1، ص379.
([8]) توضيح نهج البلاغة، السيد محمد الحسيني الشيرازي، ج2، هامش، ص165.
([9]) المصدر نفسه – ج7 ص64.
([10]) أَي من أصلهم، تاج العروس، ج1، ص194.
([11]) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج1، ص39.
([12]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الشجرة النبوية في نهج البلاغة، للباحث محمد حمزة الخفاجي، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص75 – 79.