بقلم: الدكتور علي الفتال
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
من خلال قراءتي ((نهج البلاغة)) بتأملٍ وتأنٍ ورويَّة، وجدت في محتواه خصائص هي بمجموعها تشكل قوانين الحياة بمفاصلها الحيوية، وأنا بتحديدي تلك الخصائص لا يعني ذلك أنني توفرت على خصائص ((النهج)) كلها بل هي بعض ما تراءى لي بعد قراءتي المتأنية تلك. لذلك أطلقتُ عليها ((من خصائص))، والتبعيض هذا الذي دلّت عليه الأداة (مِن) يعني أن ثمة خصائص أخرى يضمها كلام علي عليه السلام فاكتفيت بالذي وجدت.
وإليك قارئي العزيز هذه الخصائص
قال عليه السلام يصف خلق الجراد:
((.. وإن شئت قلت في الجرادة، إذ خلق لها عينين حمراوين، وأسرج لها حدقتين قمراوين (مضيئتين)، وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السوي، وجعل لها الحس القوي، ونابين بهما تقرض، ومنجلين (أي: رجلين) بهما تقبض، يرهبها الزرّاع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبها (دفعها) ولوأجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتها (وثباتها) وتقضي منه شهواتها، وخلقها كله لا يكوّن إصبعاً مستدقة، فتبارك الله الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعاً وكرها..).
وقال - عليه السلام- يصف خلق الطاووس:
((ابتدعهم خلقاً عجيباً من حيوان وموات، وساكن وذي حركات؛ وأقام من شواهد البينات على لطيف صنعته، وعظيم قدرته، ما انقادت له العقول معترفة به، ومسلِّمة له، ونعقت (صاحت) في أسماعنا دلائله على وحدانيته، وما ذرأ (خلق) من مختلف صُوَر الأطيار التي أسكنها أخاديد (شقوق) الأرض، وخروق فجاجها، (الطرق الواسعة) ورواسي أعلامها (جبالها) من ذات أجنحة مختلفة وهيئات متباينة، مصرفة في زمام التسخير، ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجوالمنفسخ، والفضاء المنفرج، كونها بعد إذ لم تكن في عجائب صُوَر ظاهرة، وركبها في حقاق (مجتمع المفصلين) مفاصل محتجبة (مستترة باللحم)، ومنع بعضها بقَبالة (بضخامة) خلقه أن يسموفي الهواء خفوفاً (سرعة وخفة) وجعله يدف دفيفاً.
ونسقها (رتبها) على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته، ودقيق صنعته، فمنها مغموس في قالب لونٍ لا يشوبه غير لون ما غمس فيه؛ ومنها مغموس في لون صبغٍ قد طوّق بخلاف ما صُبغ به.
ومن أعجبها خلقاً الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضّد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج (داخل) قَصَبه وذَنَبٍ أطال مسحبه إذا درج (مشى) إلى الأنثى نشره من طيّه وسما به (رفعه) مطلاًّ على رأسه كأنه قِلعُ (شراع) داريٍّ؛ (جالب العطر من دارين)، عنجه نوتيّه (جذبه بحّاره) يختال (يعجب) بألوانه، ويميس (يتبختر) بزيَفانه (حركته يميناً وشمالاً)، يُفضي (يُذهب)، كإفضاء الديكة ويؤُرُّ (يسفد) بملاقحه (آلات التناسل) أرَّ الفحول المغتلمة (ذات الشهوة) للضراب (للقاح) أحيلك من ذلك على معاينةٍ، لا كما يحيل على ضعيف إسناده، ولوكان كزعم من يزعم أنه يلقح بدمعةٍ تسفحها مدامعه فتقف في صفتي جفونه، وإن أنثاه تطعم (تذوق) ذلك ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنبجس (النابع)، لما كان ذلك بأعجب من مطاعنةٍ (تلقيح) الضراب؛ تخال قصبة مداري (أمشاط) من فضة، وما أنبت عليها عجيب داراته (حالاته) وشموسه خالص العقيان (الذهب) وفِلذ الزبرجد.
فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت: جنىً جُني من هرة كل ربيع، وإن ضاهيته بالملابس فهوكموشّى (المنقوش) الحلل، وكمؤنق عصب اليمن، وإن شاكلته بالحلي فهوكفصوص ذات ألوان، قد نُقِّطَت باللجين (الفضة) المكلل (المزين) يمشي مشيَ المرح المختال، ويتصفح ذَنَبه وجناحيه، فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله (لباسه) وأصابيغ وشاحه؛ فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا (صاح) معولاً بصوت يكاد يبين عن استغاثته، ويشهد بصادق توجعه، لأن قوائمه حُمشٌ (دقيقة) كقوائم الديكة الخلاسية (المهجنة) وقد نجمت (لبثت) من ظنوب (حرف عظمة الأسفل) ساقه صيصية (شوكة) خفية، وله في موضع العرف قُنـزعة (خصلة) خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالإبريق، ومغرسها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، أوكحريرة ملبسةٍ مرآة ذات صقال وكأنه متلفع بمعجر (بثوب) أسحم (أسود)؛ إلا أنه يخيل للكثرة مئة، وشدة بريقه، أن الخضرة الناضرة ممتزجة به، ومع فتق سمعه خط لمستدق القلم في لون الأقحوان (البابونج) أبيض يقق (شديد البياض)، فهوبياض في سواد ما هنالك يتألق (يلمع) وقلَّ صبغٌ إلا وقد أخذ منه بقسط (نصيب) وعلاه (فاقه) بكثرة صقاله وبريقه، وبصيص ديباجه ورونقه (حسنه) فهوكالأزاهير المبثوثة لم تُربِّها أمطار ربيع، فيسقط تترى، وينبت تباعا، فينحت (يسقط) من قصبه انحتات أوراق الأغصان، ثم يتلاحق نامياً حتى يعود كهيئته قبل سقوطه، لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مكانه! وإذا تصفحت شعرةً من شعرات قصبه أرتك حمرةً ورديةً، وتارة خضرة زبرجدية، وأحياناً صفرة عسجدية (مذهبة)، فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق (أعماق) الفطن، وتبلغه قرائح العقول، أوتستنم وصفه أقوال الواصفين!
وأقل أجزائه قد أعجز الأوهام أن تُركه، والألسنة أن تصفه فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق جلاّه (أهره) للعيون، فأدركته محدوداً مكوّناً أومؤلّفاً؛ وأعجز الألسن عن تلخيص صفته، وقصر بها عن تأدية نعته)).
وقال عليه السلام يصف خلق الخفاش:
((الحمد لله الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، وردعت عظمته العقول، فلم تجد مساغاً إلى بلوغ غاية ملكوته! هوالله الحق المبين أحق وأبين مما ترى العيون، تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبّهاً، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثَّلاً خلق الخلق على غير تمثيل، ولا مشورة مشير، ولا معونة معين، فتم خلقه بأمره، وأذعن لطاعته، فأجاب ولم يدافع وانقاد ولم ينازع. ومن لطائف صنعته، وعجائب خلقته، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي؛ وكيف عَشِيَت أعيُنُها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نوراً تهتدي به في مذاهبها، وتتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، وردعها يتلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها، وأكنّها في مكامنها عن الذهاب في بلج (ضوء) ائتلافها، فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحِداقها، وجاعلة الليل سراجاً تستدل به في التماس أرزاقها، فلا يردّ أبصارها أسداف ظلمته، ولا تمتنع من المضي فيه لغسق جنّته (ظلمته)، فإذا ألقت الشمس قناعها. وبدت أوضاح (بياض) نهارها، ودخل إشراق نورها على الضباب في وجارها (جحرها)، أطبقت الأجفان على مآقيها، وتبلّغت بما اكتسبته من المعاش في ظلم لياليها، فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً، والنهار سكناً وقراراً! وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران، كأنها شظايا الآذان، غير ذوات ريش ولا قصب إلاّ انك ترى مواضع العروق بينة أعلاماً (رسوماً)، لها جناحان لما أبرقا فينشقا، ولم يغلظا فيقلا، تطير وولدها لاصق بها لاجيء إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه، ومصالح نفسه، فسبحان الباريء لكل شيء على غير مثال خلا من غيره، (أي تقدم من سواه فحاذاه).
وقال عليه السلام في خلق النملة:
((.. انظر إلى النملة في صغر جثتها ولطافة هيئتها، لا تكاد تُنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر، كيف دبّت على أرضها، وصبّت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها، وتعدها في مستقرها. تجمع في حرها لبردها، وفي وردها لصدرها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يغفلها المنّان، ولا يحرمها الديّان ولوفي الصف اليابس والحجر الجامس (الجامد) ولوفكرت في مجاري أكلها في علوها وسُفلِها وما في الجوف من شراسيف (مقاطع أضلاع) بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها تعباً، فتعالى الذي أقامها على قوائمها، وبنى على دعائمها، لم يشركه في فطرتها فاطر، ولم يعنه في خلقها قادر، ولوضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلاّ على انَّ فاطر النملة هوفاطر النخلة، لدقيق تفصيل كل شيء، وغامض اختلاف كل حي، وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء، وكذلك السماء والهواء والرياح والماء. فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر واختلاف هذا الليل والنهار، وتفجر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال، وطول هذه القلال (رأس الجبل) وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات، فالويل لمن جحد المقدِّر وأنكر المدبِّر..)). ([1]).
الهوامش:
[1] لمزيد من الاطلاع ينظر: أضواء على نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية، د. علي الفتال، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ج1، ص 311 - 316.