بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل – الجامعة المستنصرية
((الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:
قوله (عليه السلام): «بَطَنَ فخَبَرَ»
بَطَنَ
الباطن خلاف الظَّاهر. جاء في العين: «البَطْنُ في كلِّ شيءٍ خلافُ الظَّهر، كبَطْنِ الأَرْضِ وظَهْرها، وكالباطِنِ والظَّاهر... وبِطانةُ الرَّجل: وَليجَتُهُ من القَوْم الذين يُداخِلُهم ويُداخِلُونه في ُخْلِة أَمْرِهم...» [1]. ويُقال: وأَفْرَشَنِي فلانٌ بطنَ أَمْرِه وظهره، أَيْ: سرّه وعلانيَّته[2]، وتَبَطَّنْت في الأَمر، أَيْ: دَخَلْتُ فيه حتَّى عَلِمتُ باطنَهُ[3].
ومن صفات الله ــ تبارك وتعالى ــ الباطن، قال الفرَّاء: «الباطن على كلِّ شيء علماً، فهو سبحانه وتعالى العالم الخبير، فيُقال: بطنت الأَمر، أَيْ: خبرته»[4].
ووصف ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ بالباطن؛ «لأَنــَّه نفى عن أَنْ تدركه الخلائق بكيفيَّة، أَو يحيط به أَوهامهم، أَو تبلغه صفاتهم، أَو تدركه عقولهم، فلمَّا كان هكذا؛ فقيل هو الباطن، ولامتناعه عن درك المخلوقين بذاته باطناً»[5].
وورد هذا الفعل «بَطَنَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة للدَّلالة على معناه اللُّغوي، أَورده أَمير المؤمنين (عليه السلام) في مقام تمجيد الله ــ تبارك وتعالى ــ وتعظيمه، ببيان صفاته، وجاء فيها فعلاً ماضياً مجرَّداً مبنيّا على الفتح، إذ قال (عليه السلام): «بطن فخبر»، والفاعل ضمير مستتر، تقديره هو، عائد إلى الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ أَيْ: أَنَّ الله ــ تعالى ــ عالم بكلِّ شيء، محيط به، لا يخفى عليه شيء؛ فهو المطَّلع على خفايا الأُمور، ويعلم السِّرَّ وما يخفى. وجملة (بَطَنَ) معطوفة على جملة (فستر).
* * *
خَبَرَ
تدلّ مادَّة «خَبَرَ» في اللُّغة على العلم بالشَّيء. فالخبير العالم بالأَمر: والخابر: المختبرُ المُجرِّبُ، وخَبِرْتُهُ أَخْبَرُهُ: أَيْ: علمتُه[6]. ويُقال: من أَين خبرت هذا الأَمر: أَيْ: من أَين علمت؟[7].
وقال الرَّاغب: «الخُبْرُ: العلم بالأَشياء المعلومة من جهة الخَبَر، وخَبَرْتُهُ خُبْراً وخِبْرَة... وقيل الخِبْرَة المعرفة ببواطن الأَمر... وقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [آل عمران/ 153]، أَيْ: عالم بأَخبار أَعمالكم، وقيل أَيْ: عالم ببواطن أُموركم، وقيل: خبيرٌ بمعنى مُخْبِر، كقوله: (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [المائدة/ 105]، وقال تعالى: (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد/31]، (قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) [التوبة/ 94]، أَيْ: من أَحوالكم التي نُخْبَرُ عنها»[8].
وجاء في (لسان العرب): «الخَبِيرُ: مِنْ أَسماء اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْعَالِمُ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ... وخَبَرْتُ الأَمرَ من باب قَتَلَ كما في القاموس والمصباح، أَيْ: علمتُهُ، وخَبَرْتُ الأَمرَ أَخْبُرُهُ إِذا عَرَفْتهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَقَوْلُهُ تعالى: (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [9]، أَي: اسأَل عَنْهُ خَبِيراً يَخْبُرُ»[10].
وفرَّق أَبو هلال العسكريّ بين (الخبر)، و(العلم) بقوله: «الْفرق بَين الْعلم وَالْخَبَر: أَنَّ الْخَبَر هُوَ الْعلم بكنه المعلومات على حقائقها، فَفِيهِ معنى زَائِد على الْعلم...»[11].
وورد هذا الفعل «خَبَرَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، جاء فيها مقترناً بالفاء العاطفة، بعد الفعل «بَطَنَ»، إذ قال أَمير المؤمنين (عليه السلام): «بَطَنَ فخَبَرَ» . وقد تقدَّم أَنَّ الفاء العاطفة تفيد السَّببيَّة إنْ كان المعطوف جملةً[12]، فـ«بَطَنَ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمير مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله تبارك وتعالى، والفاء عاطفة، و(خَبَرَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمير مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ، والجملة الفعليَّة (خَبَرَ) معطوفة على الجملة الفعليَّة (بَطَنَ). فالله ــ تبارك وتعالى ــ عالم بكلِّ الأَشياء ومحيط بها، ولا تخفى عليه خافية في السَّماء ولا في الأَرض؛ ولذا فهو عالمٌ بأَخبار أَعمال العباد)[13].
الهوامش:
[1]. العين: 2/103.
[2]. ينظر: الصحاح في اللغة: 1/46.
[3]. ينظر: المحيط في اللغة: 2/325. وينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 130، ولسان العرب: 2/13.
[4]. معاني القرآن: 3/49 و50.
[5]. الزينة في الكلمات الإسلامية: 2/49 و50.
[6]. ينظر: العين: 1/321. وينظر: تهذيب اللغة: 2/484، والمحيط في اللغة: 1/361.
[7]. ينظر: الصحاح في اللغة: 1/161، والمحكم والمحيط الأعظم: 2/332، والقاموس المحيط: 8/488.
[8]. مفردات ألفاظ القرآن: 273.
[9]. الفرقان: 59.
[10]. لسان العرب 4/226.
[11]. الفروق اللغوية 211.
[12]. ينظر: الفعل (عَدَلَ) من الكتاب.
[13] لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 72- 75.