البَاحِث: سَلَام مَكّيّ خضَيّر الطَّائِيّ.
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصَّلَاة والسَّلَام على أشرف الخلق والمُرسَلِين أبي القاسِم مُحَمَّد وآله الطَّيِّبين الطَّاهِرِين، واللعن الدَّائِم على أعدائِهم إلى قيام يوم الدِّين...
فإنّ تقبّل الرَّأي من الآخر والاستماع إليه، وعدم انكاره وردّه عليه مباشرةً، إلَّا بأسلوب أخلاقي مُهَّذب، يُعد من الأساليب الأخلاقيَّة لدى الفرد، بالإضافة إلى أن الرّوايات الشَّريفة أخذ فيها موضوع تقبل الرّأي وعدم التّعصّب للرَّأي الشَّخصيّ والتّمسّك به والجدال من أجله والدّفاع عنه، سواء كان هذا يعلم بصحّة خطأ رأيه أو صوابه، حيزًا كبيرًا، منها ما جاء في كلام لأمير المؤمنين (صلوات الله تعالى وسلامه عليه)، الذي سنذكر بعضًا منه في دُرج مقالنا هذا.
فالجدال من أجل الرأي الشَّخصي والتّمسّك به والعناد في طرح الآراء، قد يولّد البغضاء بين الأصحاب والأصدقاء، بل ممكن حتى بين أفراد العائلة، وذلك لأنّ من شروط دوام العلاقة الطّيبة مع الأصحاب والأصدقاء وأفراد العائلة والمجتمع الذي يعيش فيه الفرد، هو الابتعاد عن بعض الأمور، ومنها: التي يحدث فيها اختلاف في الرأي ووجهة النَّظر ومعارضة ويكون فيها جدال وتمسّك واستبداد في الرّأي وعناد وإصرار على الموقف[1]، فروي عن أمير المؤمنين (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام) أنَّه قال: (شرط المُصاحبة قلّة المُخالفة)[2].
فإنَّ تعصّب الفرد وتمسّكه برأيه وعدم التَّنازل عنه، ومرائه وجداله مع الآخر وعدم اقتناعه برأيه قد يؤدي إلى إفساد العلاقة معه، بل قد يكون ذلك حتى مع المجتمع الذي يعيش فيه أو حتى مع الوسط العائلي أحيانًا، فترى بعضا من الناس المحيطين به كأصدقائه وغيرهم، لا يودّون أن يحتكّوا به ولا يرغبون في خوض النقاش معه في حديث ما، لعلمهم المسبق في مرائه وكثرة خلافه ولا يرى رأيًا صائبًا سوى رأيه، لذلك يُتحاشى من قبل الآخرين، لأنهم لا يصلون لنتيجة معه في نهاية الحديث، فروي عن أمير المؤمنين (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) أنَّه قال: (كثرة الخلاف شقاق)[3]، فيصبح الشخص منفردًا بنفسه فقد يندر من يندمج في الحديث وطرح الآراء ونقاشها معه، فيكون في نهاية الأمر من جراء نقاشه الذي لا يجدي نفعًا، ويكون قليل الأصدقاء والأصحاب والأحباب، فروي عن أمير المؤمنين الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام) أنَّه قال مُحذّرًا من كثرة النّقاش مع الأصدقاء الذي يكون فيه التّمسّك والاستبداد في الرّأي: (من ناقش الإخوان قلّ صديقه)[4].
فيمكن أن تأتي العلاقة الطيِّبة والودَّية الخالصة لله تعالى بين الأفراد إذا كانت خاليةً من التوتّرات ومبنيَّةً على أساس الصّدق والألفة والمحبَّة مع وجود بعض التَّنازلات من أحدهما للآخر، ولا تأتي من كثرة المراء والتّعصب للرأي والاستبداد به، وخير الكلام على ذلك ما قاله إمام المُتَّقين عَلِيّ بن أبي طالب (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام): (لا محبّة مع المراء)[5].
فيجب على الفرد المُحاور أن يكون حواره وحديثه مع الآخر مبنيًّا على الأسس الحواريَّة الصَّحيحة، في تقبّل وجهة نظره ورأيه بكلّ احترام ويعطي رأيه في الموضوع الذي يدور فيه الحوار والنّقاش بكلّ صدقٍ وأمانة من دون مجاملة على حساب الحق، فهذا يؤمن الفرد من الزَّلل وعدم الوقوع في الباطل والنّفاق ولا تبقى حُجَّة للآخر أن ينكر عليه رأيه أو يخطّئه، فمن خير ما ذُكر في هذا الشَّأن، ما رُوي عن أمير المؤمنين (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) أنَّه قال: (صواب الرَّأي يؤمن الزَّلل)[6].
فلا يحق للمُحاوِر أو يجوز له أن يجامل الآخر إذا كان رأيه غير صائب ولا يوافقه فيه، وفي الوقت نفسه أن يردّ عليه بكلامٍ خشن أو بغضب، لأنَّه قد يكون في رأيه هذا مخالفة شرعية أو عقديَّة، فممكن أن ينبهه على خطئه لكن بأسلوبٍ حواريّ أخلاقيّ وكلام ليِّن وحسِن، وذلك لأنَّ عدم تنبيه الآخر على عدم صوابه في الرَّأي وموافقته وترك رأيه على حاله، قد يؤدّيّ إلى حدوث أشياء تغضب الله تعالى يقوم بها الآخر نفسه، كارتكاب جريمة مثلًا أو فاحشة أو ظلم نفس إنسانيّة... إلخ، فنستنتج أن هذا الأمر-الموافقة في الرأي أو المجاملة- لا يرضي الله (عزَّ ذكره)، وإنَّ من أصول الحوار أن يُقال الكلام الحق والابتعاد عن الكلام الباطل، وأن يقول للحق هذا حق وللباطل هذا باطل، وممكن أن تسمى هذه الموافقة إن حصلت أو إن استمرَّ عليها صاحبها من دون تنبيه الآخر على الخطأ في رأيه: (نفاقًا)، وما يُعزّز كلامنا هذا ما جاء عن إمامنا عَلِيّ بن أبي طالب (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) أنَّه قال: (كثرة الوفاق نفاق)[7]، وهذا فإنَّ الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام) في هذه الكلام يُحذّرنا من الموافقة في كلّ المواقف الحوارية مع علمنا بالخطأ، لأنَّ الموافقة قد تصبح في أغلب الأحيان نفاقًا، كما يحذّر (عليه السَّلَام) من المنافقين، وذلك لأنَّهم لا يلتزمون بالصّدق ويعملون ويحاولون على صدّ النَّاس عن الطريق المستقيم ويكونون سببًا في انحرافهم عن جادة الحق، إذ إنَّهم يوافقون الناس في آرائهم في الظَّاهِر لكنَّهم يُخالفونهم في الباطن[8].
الهوامش:
[1] يُنظر: الحوار في كلام الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام)، د. أنيسة الخزعلي: 26، جامعة السَّيِّدة الزَّهرَاء (عليها أفضل الصَّلَاة والسَّلَام) – طهران.
[2] موسوعة أحاديث أهل البيت (عليهم أفضل الصَّلَاة والسَّلَام)، الشَّيخ هادي النَّجَفِيّ: 10/284.
[3] شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: 1/26.
[4] موسوعة الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام)، محمَّد الرّيشهري: 10/227.
[5] الأنوار العلويَّة، الشيخ جعفر النَّقديّ: 490.
[6] عيون الحكم والمواعظ، عَلِيّ بن مُحَمَّد الليثي الواسطي: 301.
[7] شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: 1/26.
[8] يُنظر: الحوار في كلام الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام)، د. أنيسة الخزعلي: 14.