بقلم: محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان
((الحمد لله وإن أتى الدّهرُ بالخطب الفادحِ، والحدثِ الجليلِ، وأشهدُ أن لا إله إلّا الله ليس معه إله غيرهُ وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله))
أما بعد:
قال أمير المؤمنين عليه السلام ((وَالْبُخْلُ عَارٌ، وَالْجُبْنُ مَنْقَصَةٌ، وَالفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ[1] عَنْ حُجَّتِهِ، وَالْمُقِلُّ [2]غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ، وَالْعَجْزُ[3] آفَةٌ[4]، وَالصَّبْرُ شَجَاعَةٌ، وَالزُّهْدُ ثَرْوَةٌ، وَالْوَرَعُ جُنَّةٌ[5])).
قد حوت هذه الحكمة مجموعة من التوجيهات المهمة والتي تثمر بمجموعها شخصيةً متوازنةً للإنسان في إطار المجتمع، فيحسن ان نتسلسل في شرحها والاستظهار منها على شكل نقاط:
1- البخل جامع لمساوئ العيوب ويؤدي إلى كل سوء مما يوجب التخلي عنه لو ابتلي به الإنسان، أو الابتعاد عنه ابتداءً.
2- الجبن: ضد الشجاعة ومن المعلوم أن القدرة على المواجهة والمدافعة ومغالبة النفس في حب السلامة من صفات الكمال للإنسان، بينما نجد أن العكس بالعكس أي أن ضعف النفس وخورها والخوف والهلع من صفات النقص والذم للإنسان؛ لأن الكامل عليه أن يتحلى بالقدرة على مواجهة الأزمات والتغلب عليها والتجاوز عنها إلى مرحلة السلامة والنجاة.
فالإمام عليه السلام يحذر من الجبن لأنه مما يُنتقص به الإنسان فلا بد من التخلي عنه والتحلي بالشجاعة والمواجهة لتكتمل شخصية الإنسان.
3- الفقر: من المصائب العظيمة التي توجب ضعف القوي، حتى أنه يتلكأ في بيان حاجته، ويتعثر عند طلبها ويتلعثم حال إبداء حجته، فكأن الفقر قد منعه عن إفصاحه بما يريد، فيتحير لو أصابه الفقر، ويُحرج كثيرًا؛ حيث لا يمكنه ابداء حاجته، ولا تسعه السيطرة على وضعه المالي، فيعيش الضنك والفاقة بشكل يدعو للشفقة، وتزداد الوطأة على ذي الصفات الكريمة.
فهي دعوة من الإمام عليه السلام إلى:
أ- احترام صاحب الفهم والفطنة، وعدم الازدراء به لو افتقر.
ب- رعاية الفقراء ومعاونتهم على مجاوزة المحنة وعدم التخلي عنهم -مهما أمكن-.
4- ثم أردف عليه السلام الجملة السابقة (الفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حُجَّتِهِ) بقوله: (الْمُقِلُّ غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ ) للتأكيد على الاهتمام بشأن مشكلة الفقر، وأنه مما يتساوى فيه الجميع، وأنه لا (تأمين) ضده، ولا يتعالى عنه أحد مهما كان مركزه الاجتماعي، الاقتصادي، الديني...، فإذا كان كذلك، فمن الضروري جداً أن يتعاون الإنسان الميسور الحال مع أخيه الإنسان الذي أقلّ -بمعنى أشرف على إعلان الفقر التام والاحتياج لكنه في وقته الحاضر لديه بعض الشيء-، والدعوة لمساعدته ومعونته لرفع وحشة الغربة عنه ولو كان في بلده؛ لأن المال يحيط الإنسان بما يرفع الوحشة، ويهيئ له من يصحبه ولو لماله، وهذا أمر مهم يعاني منه كثير، فلا بد أن لا نستوحش من فقير، أو مشرف على الفقر، أو نبتعد عنه، أو نقلل من احترامنا له، واهتمامنا به؛ لأن المال ليس كل شيء في الحياة، ولا يعني شيئًا كبيرًا سوى أنه معونهة الله تعالى لعباده في الدنيا لتمشية أمور معاشهم وحياتهم فبقاؤه غير أكيد، ووجوده محتمل غير متيقن فلا بد أن لا يُعتمد عليه وأن لا يُجعل حاجزًا بين الإنسان وأخيه الإنسان؛ لأنه سرعان ما يزول؛ فيتمنى الإنسان -العاقل- أن لو لم يكن قد وضعه بينه وبين أخيه الإنسان.
5- إن الشعور بعدم القدرة على شيء -أيًا كان- يتعب الإنسان نفسيًا وربما جسديًا ولذلك عدة مظاهر: كعدم القدرة على التعلم أو الغنى أو الارتقاء إلى مستوى أعلى يحلم به أو الحلول في مكان ما أو الحصول عل أمنية ما أو ... أو ... مما يثير في الإنسان مشاعر المعاناة والتألم الداخلي ولذا أخبر عليه السلام عن أن العجز في أية مرحلة من مراحله وأي مستوى من مستوياته وفي أي ظرف يقع، يعتبر مفسدًا لما أصابه وآفة تنذر بالخطر لأنها تستولي عليه في يوم ما وتقضي عليه.
فالدعوة إذن إلى التحلي بروح الانفتاح ومحاولة التشبث والإعادة وعدم الاكتفاء بالمرة حتى لا تحصل حالة تسمى بالعجز فإنه إذا عرف الإنسان نفسه بأنه عاجز عن شيء فإن شعوره هذا كفيل بالحيلولة دونه ودون المواصلة في الحياة.
فلا بد من المواصلة وعدم الاستسلام لأول الحوادث الحاجزة أو المعرقلات الموضوعة بل على المؤمن أن يتسم بروح تفاؤلية عالية توصله إلى مطلوبه المشروع -طبعًا- وأن طال الزمان لئلا يتحقق العجز فيصاب بالآفة.
6- لا شك أن الإنسان معرّض للابتلاء وحلول المصائب به فهو والحالة هذه إما أن يستسلم وينهار كما هو حال الضعيف، أو يواجه المشكلة باحثًا عن حلها ويتجلد ولا يشكو مما أبتلي به ليكون بذلك شجاعاً؛ لأن روح المقاومة وعدم الاستسلام للمصائب تعتبر روحًا عالية لا تقل في أهمية الاتصاف بها عن تلك الروح (القتالية) العالية حيث يتعرض الإنسان في كلتا الحالتين لضغط حاد فيحاول التخلص من وطأته والنجاة بأقل الخسائر.
فالدعوة للتحلي بصفة الشجاعة عبر مواجهة الطوارئ والتجلد أمامها وعدم الاهتمام البالغ (المميت) بها أو بث الأحزان والشكوى مما أصاب من خلال تلكم الطوارئ لئلا يواجه من قبل الآخرين بالرفض أو الاشمئزاز فإنها حالة خاصة، لا يتسع صدر كل أحد لتحمل بعض أعبائها ولو الكلامية من خلال الشكوى.
7- إذا عرفنا أن اللغة تحدد الزهد بأنه (الإعراض عن الشيء احتقارًا له)[6] عرفنا أن الزاهد ثريٌ غنيٌ بما سيطر على نفسه وهواه فلم يذل لأحد لأجل الحصول على شيء.
وعرفنا أيضًا أن الزاهد مترفع عما في أيدي الناس لاتجاهه خطًّا غير ما سلكوه من خط التلهف وراء الأشياء المادية والاستماتة في سبيل الحصول عليها.
وعرفنا أيضًا أن الزاهد له رصيد دائم لا ينضب في يوم ما، ولا تعرض عليه عوارض النفاد والاستهلاك لأن رصيده يستمد من إيمانه وثقته بأن الدنيا وما فيها لله تعالى وبأن الدنيا وما فيها زائل، وأن من يحوي شيئًا ماديًا لا بد أن يفارقه في يوم ما، فهذا الإيمان العميق بالفكرة يجعله يتخفف من كثير مما يتمسك بأهدابه الآخرون بل ويستميتون في ذلك.
وإذا كان المقصود للناس التغلب على صعاب الدنيا بالمال وبالكمية الكثيرة منه ليطمئنوا إلى حفظ مستقبلهم فالزاهد قد حفظ مستقبله بالاستعانة بالله والتوكل عليه وتدبير شئونه الدنيوية بما لا تتوقف معه العجلة من دون طلب المزيد الذي يذهب وتبقى تبعته.
فحقًا أن الزاهد بحصوله على هذه السيطرة النفسية العظيمة ثريّ لا يحتاج إلى معونة أحد.
8- إن الورع يحصل للإنسان إذا اجتنب المعاصي والشبهات وبذلك يكون قد أحاطت به سترة واقية من العَوادي والآفات التي يحتمي منها الإنسان غالبًا: المرض، الفقر، عدم الاستقرار، الفشل في الحياة بأنواعه، عدم المصداقية والموضوعية بين أفراد طبقته؛ لأن المعاصي أو الأمور المشتبهة -التي تكون في خط بين الوضوح والغموض فلا يجزم بأنها نقية- إذا ابتعد عنها الإنسان سوف يتخلّ من (عُقد) ومزالق ومطبات ومشاكل يتعرض لها غيره كثيرًا نتيجة عدم التورّع والاجتناب بحيث يصلح هذا أن يكون خطًا تقاس عليه الأمور كما دلّت التجربة عليه وأكدته الروايات.
فالدعوة في هذه الحكمة إلى التخلي عن البخل وعن الجبن وعن حالة الهلع وعدم المواجهة وعن الاقتحام في الشبهات وعن عدم التورع، وهي دعوة في ذات الوقت إلى التحلي بالسماحة والقوة والصبر والزهد فيما حرّم الله والتورع عما فيه شبهة فضلًا عن الحرام. لتكتمل بالتالي شخصية الإنسان متوازنة قوية[7].
الهوامش:
[1] الفَطِن: صاحب الفِطنة وهي الحذق والفهم. المنجد ص588 مادة (فطن).
[2] المُقِل: الفقير وفيه بقيّة. المنجد ص648 مادة (قلّ).
[3] العَجز: الضعف. القاموس ج2/ ص180.
[4] الآفة: العاهة أو عَرَضٌ مفسد لما أصابه. القاموس ج3/ ص120.
[5] الجُنّة: كلّ ما وقَى. القاموس ج4/ ص210.
[6] المنجد. ص308 مادة (زهد).
[7] لمزيد من الاطلاع ينظر: أخلاق الإمام علي عليه السلام: محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان، ج1، ص 129 - 134.