بقلم: الشيخ محسن علي المعلم
((الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على هداة الخلق إلى الحق، محمد وآله الطاهرين))
وبعد:
لقد تجسّد في شخصية الإمام (عليه السلام) الإيمان الحق، والعبودية الخالصة، واصطبغت بمكارم الأخلاق.
فلم يكن من شيمته التعالي، وهو العلي، ولا من سجيته التكبر والفخر، بل سمته التواضع، وشأنه الرفق والحنان والعطف واللطف، وملؤه الرحمة.
فأقواله وأفعاله وخلائقه في ذاته ومع الخلق، موقفًا وتصرفًا ومطعمًا ومشربًا ولباسًا وهيئةً شواهدُ صدق ومشاهد عدل على كمالاته وامتيازاته.
وإن كان في ما يملك من الخصائص المميزة، والشؤون المجتمعة التي تفرد بها بواعث للفخر والزهو.
أجل.. إنه (إمام الحكمة) وجوهر الاستقامة، وبطل المواقف.
ومن شأن ذلك: وضع الأمور في نصابها، ومعالجة القضايا بما تمليه ظروفها ودراسة أوضاعها بموضوعية، لتتجلّى بذلك الحقيقة الناصعة، والمعالجة الناجعة.
ولنأخذ من سجاله مع خصمه اللدود (معاوية) وهو ذو الشيطنة النكراء مادة للبحث، فقد تواردت وتتابعت بينهما الرسائل، والرسالة عقل مرسلها وفكره ودينه، وحكاية طباعه، وترجمان نزعاته وطموحاته.
1) تمايز الرجال وتفاوت الأحوال:
أ) «وأَمَّا قَوْلُكَ إِنَّا بَنُو عَبْدِ منافٍ فَكَذلِكَ نَحْنُ، وَلكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمَ، وَلاَ حَرْبٌ كَعَبْدِ المُطَّلِبِ، وَلاَ أَبُوسُفْيَانَ كَأَبِي طَالِب، وَلاَ المُهَاجرُ كَالطَّلِيقِ، وَلاَ الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ، وَلاَ المُحِقُّ كَالمُبطِلِ، وَلاَ المُؤْمِنُ كَالمُدْغِلِ، وَلَبِئْسَ الخَلَفُ خَلَفٌ يَتْبَعُ سَلَفًا هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ»[1].
فثمت رجال حق، وأفذاذ بشر، وطينة شرف، وثمت أضداد، وكل يعمل على شاكلته.
وحسبُكُمُ هذا التفاوتُ بيننا وكلُّ إناءٍ بالذي فيه يَنْضَحُ
وجاء دين الله يحمله ويصدع به ذروة الكمال والشرف سيد الرسل وخاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) وعليهم، فكان عنوان الحق، ومقياس الإيمان، ورابطة الانتماء.
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ}[2].
فأين موقع ابن أبي طالب وحفيد عبد المطلب؟ وأين موقع خصمه ابن أبي سفيان بن حرب؟! وأين السلف والخلف؟!
«وَفِي أَيْدِينَا بَعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ وَنَعَشْنَا بِهَا الذَّلِيلَ».
ب) «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَأَحْجَمَ النَّاسُ قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ وَالْأَسِنَّةِ، فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقُتِلَ جَعْفَرٌ يَوْمَ مُؤْتَةَ، وَأَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَمَنِيَّتَهُ أُجِّلَتْ، فَيَا عَجَبًا لِلدَّهْرِ إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي وَلَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي الَّتِي لَا يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا، إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لَا أَعْرِفُهُ وَلَا أَظُنُّ اللهَ يَعْرِفُهُ، وَالْحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ»[3].
ولا يسع الباحث الحر أن يتجاوز جملة من الجمل دون أن يغرق متأمّلًا عمق أبعادها: موضوعًا وتواضعًا، وآهة على ضياع الحقائق وانقلاب الموازين، «وَأَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَمَنِيَّتَهُ أُجِّلَتْ».
«فَيَا عَجَباً لِلدَّهْرِ إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي وَلَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي الَّتِي لَا يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا، إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لَا أَعْرِفُهُ وَلَا أَظُنُّ اللهَ يَعْرِفُهُ».
ومع ثقل المعاناة، والواقع المر، والبلاء المنيخ طفق جنانه ولسانه:
«وَالْحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ».
وعلى هذا النسق ما جاء في مقطع من كتاب له:
«لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا وَلَا عَادِيُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بِأَنْفُسِنَا، فَنَكَحْنَا وَأَنْكَحْنَا، فِعْلَ الأَكْفَاءِ، وَلَسْتُمْ هُنَاكَ، وَأَنَّى يَكُونُ ذَلِكَ وَمِنَّا النَّبِيُّ وَمِنْكُمُ المُكَذِّبُ، وَمِنَّا أَسَدُ اللهِ وَمِنْكُمْ أَسَدُ الأَحْلَافِ، وَمِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ وَمِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ، وَمِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ العَالَمِينَ وَمِنْكُمْ حَمَّالَةُ الحَطَبِ، فِي كَثِيرٍ مِمَّا لَنَا وَعَلَيْكُمْ»[4].
وللإمام المجتبى (عليه السلام) قول نسج فيه على قوله أبيه المرتضى (عليه السلام)، فلما انتشى معاوية بما تمّ له من البيعة صعد المنبر وذكر أمير المؤمنين والحسن (عليهما السلام) فنال منهما فقال الإمام (عليه السلام):
«أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله وجدك حرب، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرًا، وألأمنا حسبًا، وشرنا قديمًا، وأقدمنا كفرًا ونفاقًا.
فقال طوائف من أهل المسجد: آمين، قال يحيى بن معين: ونحن نقول: آمين، قال أبو عبيد: ونحن أيضًا نقول: آمين، قال أبو الفرج: وأنا أقول آمين»[5].
إذن.. فأصول مباركة، ودين قويم، وتاريخ مشرق، فله الوراثة الكريمة، ويرتدُّ الزمنُ العنود والدهر الكنود فيقود ابن أبي سفيان شطر الأمة ويسعرها حربًا كما كان أبوه من ذي قبل، وما عشت أراك الدهر عجبًا، إن ابن أبي سفيان يجرّ اليوم جيشًا جرّارًا لحرب من حارب أباه وشيوخ قومه، وهم بالله كافرون ولدينه ونبيّه مرصدون، يبغون الغوائل ويفعلون الأفاعيل)[6].
الهوامش:
[1] نهج البلاغة كتاب 17/271.
[2] سورة آل عمران، الآية 68.
[3] نهج البلاغة، كتاب رقم 9 /368-369.
[4] نهج البلاغة كتاب 28/386-387.
[5] كشف الغمة 1/508-509 ونحوه في (الإمام المجتبى) للمصطفوي ص204، عن (نفحة اليمن) وابن ابي الحديد في (شرح نهج البلاغة) 16/46-47، وعقَّب من أورد ذلك بـ (آمين)، وأنا أقول: (آمين آمين).
[6] لمزيد من الاطلاع ينظر: الأخلاق من نهج البلاغة: الشيخ محسن علي المعلم، العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط1، ص 91-95.