الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام ((عِبَادَ اللَّه أُوصِيكُمْ بِالرَّفْضِ لِهَذِه الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ))

سلسلة قصار الحكم

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام ((عِبَادَ اللَّه أُوصِيكُمْ بِالرَّفْضِ لِهَذِه الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ))

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 01-02-2023

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
فأن مما ورد في نهج البلاغة حول الدنيا أنه عليه السلام ذكرها في خطبة على رفض الدنيا، فيقول: ((عِبَادَ اللَّه أُوصِيكُمْ بِالرَّفْضِ لِهَذِه الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ  وإِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا، والْمُبْلِيَةِ لأَجْسَامِكُمْ وإِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا، فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ ومَثَلُهَا كَسَفْرٍ  سَلَكُوا سَبِيلًا فَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوه، وأَمُّوا عَلَماً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوه، وكَمْ عَسَى الْمُجْرِي إِلَى الْغَايَةِ  أَنْ يَجْرِيَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا  ومَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَه يَوْمٌ لَا يَعْدُوه، (وطَالِبٌ حَثِيثٌ يَحْدُوه في الدُّنْيَا حَتَّى يُفَارِقَهَا)[1]  فَلَا تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وفَخْرِهَا  ولَا تَعْجَبُوا بِزِينَتِهَا ونَعِيمِهَا  ولَا تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وبُؤْسِهَا  فَإِنَّ عِزَّهَا وفَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاعٍ  وإِنَّ زِينَتَهَا ونَعِيمَهَا إِلَى زَوَالٍ  وضَرَّاءَهَا وبُؤْسَهَا إِلَى نَفَادٍ  وكُلُّ مُدَّةٍ فِيهَا إِلَى انْتِهَاءٍ  وكُلُّ حَيٍّ فِيهَا إِلَى فَنَاءٍ.
  أَولَيْسَ لَكُمْ فِي آثَارِ الأَوَّلِينَ مُزْدَجَرٌ [2]، وفِي آبَائِكُمُ الْمَاضِينَ تَبْصِرَةٌ ومُعْتَبَرٌ  إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ  أَولَمْ تَرَوْا إِلَى الْمَاضِينَ مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُونَ؟ وإِلَى الْخَلَفِ الْبَاقِينَ لَا يَبْقَوْنَ؟ أَولَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا  (يُصْبِحُونَ ويُمْسُونَ)[3] عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى: فَمَيِّتٌ يُبْكَى، وآخَرُ يُعَزَّى، وصَرِيعٌ مُبْتَلًى، وعَائِدٌ يَعُودُ  وآخَرُ بِنَفْسِه يَجُودُ،  وطَالِبٌ لِلدُّنْيَا والْمَوْتُ يَطْلُبُه، وغَافِلٌ ولَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْه، وعَلَى أَثَرِ الْمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي...))[4] .

شرح الألفاظ الغريبة:
السفر: - بفتح فسكون – جماعة المسافرين؛ أموا: قصدوا؛ المجري إلى الغاية: يريد الذي يجري فرسه إلى غاية معلومة، أي مقدار من الجري يلزمه حتى يصل إلى غايته يحدوه: يسوقه؛ نفاد فناء؛ مزدجر: مصدر ميمي من ازدجر، ومعناه الارتداع والانزجار؛ بنفسه يجود: من جاد بنفسه إذا قارب أن يقضي نحبه، كأنه يسخو بها ويسلمها إلى خالقها[5].

شرح نهج ابن ميثم البحراني:
قوله: ((نحمده...)) إلى قوله: ((في الأبدان)):
خصص الحمد بما كان؛ لأن الشكر على النعمة مترتب على وقوعها، والاستعانة على ما يكون؛ لأن طلب العون على أمر هو بصدد أن يفعل.
ثم سأل العافية في الأديان كما سألها في الأبدان لأن لها سقماً هو في الحقيقة أشد.
وقيل لأعرابي: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي فقيل: ما تشتهي؟ قال: الجنة فقيل: أفلا ندعو لك طبيباً؟ فقال: الطبيب أمرضني.
وسمعت عفيرة العابدة البصرية[6] رجلاً يقول: ما أشد العمى على من كان بصيراً! فقالت: يا عبد الله! غفلت من مرض الذنوب واهتممت بمرض الأجساد، وعمى القلب عن الله أشد.
والمعافاة فيها بإمداد العناية الإلهية ببقائها سليمة وبتداركها للمذنبين بجذبهم إلى التوبة.

ثم أردف ذلك بالرأي الصالح والوصية الناصحة برفض الدنيا، ونفر عنها بذكر معائب:
أحدها: تركها لهم على كل حال وإن لم يحبوا تركها، ومن أكبر المصالح ترك محبوب لابد من مفارقته تركاً باستدراج النفس واستغفالها؛ كي لا يقدحها مفارقته دفعةً مع تمكن محبته عن جواهرها فيبقى كمن نقل من معشوقه إلى موضع ظلماني شديد الظلمة.

الثاني: كونها مبلية لأجسامهم وإن أحبوا تجديدها، وإبلائها بالأمراض والهرم، ومن شأن الموذي أن يجتنب لا أن يحب إصلاحه.
ثم أردف ذلك بتمثيلهم في الكون بها، فمثلهم بالسفر ومثلها بسبيل هم سالكوه، ومن سلك سبيلاً فكأنهم قطعوه فالمشبه هم باعتبار سرعة سيرهم وقرب الآخرة منهم وقطع منازل الأعمار، والمشبهة به قاطع ذلك السبيل: أي من سلك سبيلاً أشبه في سرعة سيره من قطعه، ثم لما كان لابد لكل طريق سلك من غاية يقصد، فمن سلك سبيلاً فكأنهم بلغوا تلك الغاية: أي أشبهوا في قرب وصولها من بلغها وهو تخويف بالموت وما بعده، وتحقير لمدة البقاء في الدنيا والمقام فيها.

واكد ذلك بقوله: ((وما عسى المجري إلى الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها)): أي إجراؤه إليها بسير سريع، وفي بعض النسخ: وكم عسى والتقدير وكم يرجو الذي يجري إلى غاية من إجرائه إليها حتى يبلغها؛ وهو استفهام في معنى التحقير لما يرجوه من مدة الجري وهي مدة الحياة الدنيا، ومفعول المجري محذوف والتقدير: المجري مركوبه. ولما لم يكن الغرض إلا ذكر الإجراء لا جرم حذف المفعول، وقد يجيء لازماً.
وكذلك قوله: ((وما عسى أن يكون بقاء من له يؤم لا يعدوه...)) إلى قوله: ((يفارقها)): أي وما يرجى ويؤمل أن يكون من ذلك البقاء، وكان هنا تامة وهو في الموضعين استفهام على سبيل التحقير لما يرجى من البقاء في الدنيا، والإنكار على المؤمل الراجي له، وعنى بالطالب الحثيث: الموت، وأسند إليه الطلب مجازاً، واستعار له لفظ الحدو، وقد علمت هذه الاستعارة، وكنى بذلك الحدو عما يتوهم من سوق أسباب الموت للبدن إليه.

وقوله: ((ولا تنافسوا...)) إلى قوله: ((إلى فناء)):
نهى عن اعتبار شيء من أحوالها: خيرها وشرها، فمن خيرها عزها وفخرها وزينتها ونعيمها، ونهى عن المنافسة فيه والإعجاب به، وأما شرها فضـرائها وشدائدها ونهى عن الجزع منها، وعلل وجوب الانتهاء عما نهى عنه بانقطاعه وزواله وما كان من شأنه الزوال والانقطاع فمن الواجب أن لا تنافس فيه ولا يعجب به وإن عد نافعاً وان لا يجزع من وجوده وإن عد ضاراً.
وقوله: ((أوليس لكم في آثار الأولين...)) إلى قوله: ((لا يبقون)):
تذكرة لهم بآثار السابقين لهم والماضين من آبائهم على سبيل استفهام عن حصول العبرة لهم بهم استفهام إنكار عليهم أن لا يستفيدوا من ذلك عبرة على تقدير أنهم عقلاء، كما يزعمون ذلك.
ثم تنبيه لهم على وجه الاعتبار والاتعاظ وهو عدم رجوع الماضي منهم وعدم بقاء الباقي؛ فإن ذلك محل العبرة.
ثم تنبيه لهم على ما يرون من أحوال أهل الدنيا المختلفة؛ ليستدلوا على عدم بقائها باختلاف أحوالها وعلى أنها لا تصلح قراراً، فأهلها بين ميت يبكى، وآخر يعزى، وآخر صريع مبتلى بالأمراض والأسقام وآخر يعوده مشغول الخاطر به، وآخر في المعاوقة والاحتضار والسالم من تلك الأمور طالب للدنيا والموت من ورائه طالب له غافل عما يراد به وليس الله بغافل عنه، ثم لا بد له أن يمضي على أثر من مضى وإن طال بقاؤه وما في ما يمضي مصدرية وإنما قدم الميت في أقسام أهل الدنيا؛ لأن ذكره أشد موعظة، واستعار لفظ الجود للمحتضر.
ووجه المشابهة: أنه يسمح بنفسه ويسلمها كما يسلم الجواد ما يعطيه من مال[7])([8]).

الهوامش:
[1] ما بين القوسين في نهج صبحي صالح: وطالب حثيث من الموت يحدوه ومزعج في الدنيا حتى يفارقها رغماً.
وفي نهج الشيخ العطار: وطالب حثيث من الموت يحدوه حتى يفارقها.
[2] (مزدجر): ليس في نهج صبحي صالح ونهج العطار.
[3] ما بين القوسين في نهج الشيخ العطار: يمسون ويصبحون.
[4] نهج البلاغة لصبحي صالح: 144-145/ خطبة رقم 99، وفي نهج الشيخ العطار: 189-191/ خطبة رقم 98، وفي شرح نهج ابن ميثم البحراني 3: 2-3/ خطبة رقم 96، وفي نهج الشيخ محمد عبده: 207-208.
[5] نهج البلاغة لصبحي صالح: 144- 145/ خبطة رقم 99، وفي نهج الشيخ العطار: 189- 191/ خطبه رقم 98، وفي شرح نج ابن ميثم البحراني 3: 2-3/ خطبة رقم 96، وفي نهج الشيخ محمد عبده: 207- 208.
[6] عفيرة بنت الوليد البصرية العابدة كانت طويلة الحزن كثيرة البكاء، توفيت سنة 181هـ.
[7] شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 3: 3-5/ في شرح الخطبة رقم 96.
([8]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 78-83.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.4532 Seconds