الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام: في خطبة يحث بها الناس على التقوى

سلسلة قصار الحكم

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام: في خطبة يحث بها الناس على التقوى

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 02-09-2023

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
في خطبة له عليه السلام يحث بها الناس على التقوى
الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي جَعَلَ الْحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِكْرِه، وسَبَباً لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِه، ودَلِيلًا عَلَى آلَائِه وعَظَمَتِه ...- إلى أن يقول عليه السلام  - عِبَادَ اللَّه اللَّه اللَّه فِي أَعَزِّ الأَنْفُسِ عَلَيْكُمْ وأَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ اللَّه قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وأَنَارَ طُرُقَه، فَشِقْوَةٌ لَازِمَةٌ، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ  فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ لأَيَّامِ الْبَقَاءِ، قَدْ[1]  دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ وأُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ، وحُثِثْتُمْ عَلَى الْمَسِيرِ، فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ وُقُوفٍ، لَا يَدْرُونَ  مَتَى يُؤْمَرُونَ بِالسَّيْرِ[2] .
 أَلَا فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ خُلِقَ لِلآخِرَةِ! ومَا يَصْنَعُ بِالْمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُه، وتَبْقَى عَلَيْه تَبِعَتُه وحِسَابُه!
 عِبَادَ اللَّه، إِنَّه لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللَّه مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ، ولَا فِيمَا نَهَى عَنْه مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ[3] .
 عِبَادَ اللَّه ، احْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيه الأَعْمَالُ، ويَكْثُرُ فِيه الزِّلْزَالُ وتَشِيبُ فِيه الأَطْفَالُ.
 اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّه، أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ، وحُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ وعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ، لَا تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ، ولَا يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ، وإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ.
 يَذْهَبُ الْيَوْمُ بِمَا فِيه، ويَجِيءُ الْغَدُ لَاحِقاً بِه، فَكَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْكُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ الأَرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِه ومَخَطَّ حُفْرَتِه، فَيَا لَه مِنْ بَيْتِ وَحْدَةٍ، ومَنْزِلِ وَحْشَةٍ، ومُفْرَدِ غُرْبَةٍ! وكَأَنَّ الصَّيْحَةَ قَدْ أَتَتْكُمْ، والسَّاعَةَ قَدْ غَشِيَتْكُمْ، وبَرَزْتُمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، قَدْ زَاحَتْ عَنْكُمُ الأَبَاطِيلُ، واضْمَحَلَّتْ عَنْكُمُ الْعِلَلُ، واسْتَحَقَّتْ بِكُمُ الْحَقَائِقُ، وصَدَرَتْ بِكُمُ الأُمُورُ مَصَادِرَهَا، فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ، واعْتَبِرُوا بِالْغِيَرِ، وانْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ[4].

شرح الألفاظ الغريبة:
أيام الفناء: يريد أيام الدنيا؛ الظعن: المأمور به هاهنا لسير إلى السعادة بالأعمال الصالحة، وهذا ما حثنا الله عليه؛ تبعته: ما يتعلق به من حق الغير فيه؛ الرصد: الرقيب، ويريد به هنا رقيب الذمة وواعظ السـر؛ الرتاج: - ككتاب – الباب العظيم إذا كان محكم الغلق؛ وحدته هو القبر؛ الصيحة: هنا الصيحة الثانية، لقوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً}[5]؛ زاحت: بعدت وانكشفت[6].

الشرح:
إن الإنسان إذا حصل على كمال القوة النظرية باليقين وعلى كمال القوة العملية بالتقوى بلغ الغاية القصوى من الكمال الإنساني، ثم عقب بتحذير السامعين من الله تعالى في أعز الأنفس عليهم وأحبها إليهم، وفي الكلام إشارة إلى أن للإنسان نفوساً متعددة وهي باعتبار مطمئنة وأمارة بالسوء، ولوامة. وباعتبار عاقلة، وشهوية، وغضبية. والإشارة إلى الثلاث الأخيرة. وأعزها النفس العاقلة، إذ هي الباقية بعد الموت، ولها الثواب وعليها العقاب، وفيها الوصية، وغاية هذا التحذير حفظ كل نفسه مما يوبقها في الآخرة، وذلك بالاستقامة على سبيل الله. ولذلك قال: ((فقد أوضح لكم سبل الحق وأبان طرقه))، وروي وأنار طرقه: بالآيات والنذر، ثم نبه على غايتي سبيل الحق وسبيل الباطل بقوله: ((فشقوة لازمة أو سعادة دائمة)). ثم عاد إلى الحث على اتخاذ الزاد بعد أن ذكر التقوى تنبيهاً على أن الزاد هو التقوى كما قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[7] وأيام البقاء الحال التي بعد الموت، ودلالتهم على الزاد في الآية التي دلهم الله تعالى بها عليه وأمرهم بالظعن كقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}[8] الآية، وقوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}[9] وبالجملة فكل أمر بالإعراض عن الدنيا والتنفير عنها فهو مستلزم للحث على الظعن والأمر بالمسير عن الدنيا بالقلوب؛ لأن الظعن هنا هو قطع درجات المعارف والأعمال في سبيل الله وصراطه المستقيم والمسير فيها، ويحتمل أن يريد بالحث على المسير حث الليل والنهار بتعاقبهما على الأعمار فهما سابقان حثيثان عنيفان فيجب التنبيه لسوقهما على اتخاذ الزاد لما يسوقان إليه.
وقوله: ((وإنما أنتم كركب...)) إلى آخره: فوجه التشبيه ظاهر فالإنسان هو النفس، والمطايا هي الأدبان والتقوى النفسانية، والطريق هي العالم الحسي والعقلي، والسير الذي ذكره قبل الموت هو تصرف النفس في العالمين لتحصيل الكمالات المسعدة وهي الزاد لغاية السعادة الباقية، وأما السير الثاني الذي هو وقوف ينتظرون ولا يدرون متى يؤمرون به فهو الرحيل إلى الآخرة في دار الدنيا وطرح البدن وقطع عقبات الموت والقبر إذ الإنسان لا يعرف وقت ذلك، حينئذٍ يتبين لك من سر هذا الكلام أن قوله: ((وأمرتم بالظعن)) مع قوله: ((لا تدرون متى تؤمرون بالسير))، غير متنافيين كما ظنه بعضهم، ثم أخذ في تزهيد الدنيا والتنفير عنها بذكر أن الإنسان غير مخلوق لها بل لغيرها ومقتضى العقل أن يعمل الأنسان لما خلق له، وفي تزهيد المال بتذكير سلبه عن قليل بالموت وبقاء الحساب عليه  وتبعاته من عقارب الهيئات الحاصلة بسبب  محبته وجمعه والتصرف الخارج عن العدل فيه لا سعة لمقتنيه.
ثم عقب بالترغيب في ((وعد الله بأنه ليس منه مترك)): أي ليس منه عوض وبدل في النفاسة بالتنفير عما نهى الله عنه بكونه لا مرغب فيه: أي ليس فيه مصلحة ينبغي أن يجعلها العاقل غاية مقصودة له. إذ هو تعالى أعلم بالمصالح فلا يليق بجوده أن ينهي العبد عما فيه مصلحة راجحة.
ثم عقب بالتحذير من يوم الوعيد ووصفه بالصفات التي باعتبارها يجب الخوف منه والعمل له وهي فحص الأعمال فيه ونقاش الحساب عليه كقوله تعالى: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[10].
وظهور الزلزال، كقوله تعالى: { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا }[11].
وشيب الأطفال، كقوله تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}[12].
واعلم أن هذه الصفات في يوم القيامة ظاهرة في الشريعة، وقد سلط التأويل عليها بعض من تحذلق فقال: أما الفحص عن الأعمال فيرجع إلى إحاطة اللوح المحفوظ بها و ظهورها للنفس عند مفارقتها للبدن أو إلى انتقاش النفوس بها كما تقدم شرح كقوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا}[13] الآية.
وأما ظهور الزلزال فيحتمل أن يريد التغير الذي لابد منه والاضطراب العارض للبدن عند مفارقة النفس والتشويش لها أيضاً على ما تقدم من الإشارة إلى أن الدنيا هي مقبرة النفوس وأحداثها.
وأما مشيب الأطفال فكثيراً ما يكنى بذلك عن غاية الشدة، يقال: هذا أمر تشيب فيه النواصي، وتهرم فيه الأطفال إذا كان صعباً ولا أصعب على النفس في حالة المفارقة وما بعدها.
ثم عقب بالتحذير من المعاصي بالتنبيه على الرصد القريب الملازم، وأشار بالرصد إلى الجوارح كما قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[14]
وقوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا}[15] الآية، والشهادة هنا بلسان الحال والنطق به فإن كل عضو لما كان مباشراً لفعل من الأفعال كان حضور ذلك العضو  وما صدر عنه في علم الله تعالى بمنزلة الشهادة القولية بين يديه وأكد في الدلالة، وأشار بحفاظ الصدق إلى الكرام الكاتبين وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في الخطبة الأولى، وظاهر كونهم لا يستر منهم ساتر.
ثم بالتحذير بقرب غد، وكنى به عن وقت الموت، ثم ببلوغ منزل الوحدة، وكنى به عن القبر، ووصفه بالأوصاف الموحشة المنفرة المستلزمة للعمل لحلوله ولما بعده.
ثم بالصحية وهي الصيحة الثانية: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[16]، والنفخة الثانية: و {نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[17].
ثم بالقيامة الكبرى والبروز لفصل القضاء وهو حال استحقاق كل نفس ما لابد لها منه من دوام عذاب أو دوام نعيم بحكم القضاء الإلهي، وذلك بعد زوال الهيئات الباطلة الممكنة الزوال من النفوس التي لها استكمال ما ولحقها بعالمها واضمحلال العلل الباطلة للنفوس واستحقاق الحقائق بالخلق ورجوع كل امرئ إلى ثمرة ما قدم.
ثم عاد إلى الموعظة الجامعة الكلية فأمر بالاتعاظ بالعبر وكل ما يفيد تنبيهاً على أحوال الآخرة فهو عبرة، وبالاعتبار بالغير وهي جمع غيرة فعلة من التغير واعتبارها طريق الاتعاظ والانزجار.
ثم بالانتفاع بالنذر جمع نذير وهو عم من الإنسان بل كل أمر أفاد تخويفاً بأحوال الآخرة فهو نذير والانتفاع به حصول الخوف عنه وبالله التوفيق[18].)([19]).

الهوامش:
[1] في نهج البلاغة للشيخ العطار: فقد.
[2] في نهج البلاغة لصبحي صالح: بالسَّيْرِ.
[3] في نهج البلاغة للشيخ محمد عبده: رُغَبٌ.
[4] نهج البلاغة لصبحي صالح: 221- 223/ خطبة رقم 157، ونهج البلاغة للشيخ العطار: 293 – 295/ خطبة رقم 157، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 266-268/ خطبة رقم 156، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 305-307.
[5] يس: 29.
[6] شرح الألفاظ الغريبة: 631.
[7] البقرة: 197.
[8] آل عمران: 133.
[9] الذاريات: 50.
[10] النحل: 93.
[11] الزلزلة: 1.
[12] المزمل: 17.
[13] آل عمران: 30.
[14] النور: 24.
[15] فصلت: 21.
[16] يس: 53.
[17] الزمر: 68.
[18] شرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 270-273/ شرح الخطبة رقم 156.
([19]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 158-164.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2176 Seconds