بقلم: الشيخ محسن المعلم
((الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على هداة الخلق إلى الحق، محمد وآله الطاهرين))
وبعد:
الزهد:
وهو من أمهات الفضائل الأخلاقية، والكمالات الإنسانية، والملكات العالية.
وللإمام عليه السلام في الحديث عنه سبح طويل وسبر عميق، ما انفكّ لهجًا بذكره في خطبه الطوال وجمله القصار وكتبه وعهوده، كاشفًا عن دقيق مدلوله ومواطن تجلّيه، مبيّنًا الصدق فيه من الكذب، والحق منه والباطل.
وكما صوّر وأبدع في استقراء مصاديقه ومظاهره، فقد جسّده بنحو أروع، ومثّل الزهد محسوسًا تقمّص به الإمام وتقمّص هو بالإمام، ولم ينزع أيٌّ منهما عن ظهره رداءه.
وفيما يلي عرض لشذرات من كلمه، ثم أعقبه بصور من زهده:
1- تعريف الزهد:
أ) «الزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ}. وَمَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى المَاضِي وَلَمْ يَفْرَحْ بِالْآتِي فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ»([1]).
وطريف جدًّا هذا الانتزاع القرآني، ولا غرو فإنه ممن هو مع القرآن والقرآن معه، بل هو القرآن الناطق والترجمان الصادق.
والحدّ دقيق، وموضوعه الدنيا وزينتها ومتاعها ومتعها، وليس ناظرًا لعمر ضيّع وذنب ارتكب، أو خير صنع ومكروه دفع، فإنها من مواطن الحسرة والحزن والندامة، والأخرى من مواطن السرور والسعادة.
وأما الدنيا وعوارضها (خيرًا يظن وشرًّا يحسب) فهي مورد الابتلاء والامتحان وجودًا وفقدًا وسعة وضيقًا وشدة ورخاء وإقبالاً وإدبارًا.
وفي مثل ذلك يتجلّى العقل الحصيف والإيمان الراسخ بالإذعان لقضاء المولى والتسليم المطلق لتدبيره وتقديره، فلا حزن ولا رثاء لما فات، ولا فرح وثناء لما هو آت، بل هو الرضا بما حكم به القضا.
ب) «أَيُّهَا النَّاسُ الزَّهَادَةُ قِصَرُ الْأَمَلِ وَالشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ وَالتَّوَرُّعُ عِنْدَ المَحَارِمِ فَإِنْ عَزَبَ([2]) ذَلِكَ عَنْكُمْ فَلَا يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَكُمْ وَلَا تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ فَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ مُسْفِرَةٍ ظَاهِرَةٍ وَكُتُبٍ بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَةٍ»([3]).
وفي هذا النص تفصيل لما أجمله النصّ السابق، فقد جمع الإمام عليه السلام فيه جهات عدة تمثل مجتمعة الزهد الحقيقي حيث يحيى الزاهد أملاً لا استرسال فيه ولا امتداد، بل هو الأمل المحمود المملوك في حدوده، ولا بطر عند تواتر النعم، بل الامتنان والشكر، ولا جنوح للمحرمات مهما بلغ إغراؤها، وتلوّن خداعها واشتدّت فتنتها.
وثنّى عليه السلام مركّزًا، وكرّر مؤكّدًا على خلقين شريفين مؤثّرين: على الصبر والشكر، فبهما يستعان على الصمود أمام عادية استرسال الآمال وكفران النعمة، {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}، {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}([4]))([5]).
الهوامش:
([1]) م 439 /553-554.
([2]) عَزَبَ: بَعُدَ.
([3]) خ 81 /106.
([4]) سورة إبراهيم /7.
([5]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الأخلاق من نهج البلاغة: الشيخ محسن علي المعلم، العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط1، ص191-193.