بقلم: السيد نبيل الحسني.
في الأمر الأخير مما أمّر به أمير المؤمنين (عليه السلام) مالك الأشتر عِبْر العهد الشريف ، هو الأمر بالاَجتهاد، فيقول له:
«وتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عَهْدِي هَذَا، واسْتَوْثَقْتُ بِه مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ».
ولمعرفة علّة هذا الأمر وأثره في تنمية الذات وتحسين أداء النفس لمهامها في الحياة فلا بد من المرور بأهل اللغة لمعرفة معنى الاجتهاد كي نصل إلى دلالته في النّص الشريف.
أولاً ـ معنى الجهد والاجتهاد في اللغة.
قال أهل اللغة ابن منظور وقد جمع أقوال أهل اللغة: «الجَهْدُ والجُهْدُ: الطاقة، تقول: اجْهَد جَهْدَك؛ وهو بالفتح، المشقة، وقيل: المبالغة والغاية، وبالضم، الوسع والطاقة؛ وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة، فأَما في المشقة والغاية فالفتح لا غير.
والاجتهاد والتجاهد: بذل الوسع والمجهود.
قال الأَزهري: الجَهْد بلوغك غاية الأَمر الذي لا تأْلو على الجهد فيه؛ تقول: جَهَدْت جَهْدي واجْتَهَدتُ رأْبي ونفسي حتى بلغت مَجهودي.
قال ابن السكيت: الجَهْد الغاية.
قال الفراء: بلغت به الجَهْد أَي الغاية.
وجَهَدَ الرجل في كذا أَي جدَّ فيه وبالغ.
وفي حديث معاذ: اجْتَهَدَ رَأْيَ الاجْتِهادِ؛ بذل الوسع في طلب الأَمر»[1].
ويتضح من هذا المعنى أنّ الإمام علي (عليه السلام) قد أَمْرَ مالك الأشتر ببذل وسعه وطاقته حتى يبلغ المشقة في إتباع ما عهد إليه في الأوامر والنواهي التي حددها (عليه السلام) في هذا العهد والتي تكوّن فقه صناعة الإنسان والدّولة معاً.
لكن يبقى السؤال قائما: ما الغاية من الأمر بالاجتهاد فيما أمر به أمير المؤمنين (عليه السلام) ونهى عنه؟ وهو ما سنتناوله في ثانيا:
ثانياً ـ الغاية من أمره (عليه السلام) لمالك الأشتر بأن يجتهد في أتباع ما عهد إليه.
يكشف النّص الشريف بنفسه عن نفسه في بيان الغاية في توجيبه (عليه السلام) لمالك الأشتر بأتباع ما عهد إليه، إذ قد يتوارد في ذهن القارئ أو السامع جمّلة من الاحتمالات، وهي:
1 ـ أن يكون الهدف والغاية في هذا الوجوب هو لكونه إمامه الذي فرضت عليه الشريعة طاعته، ومن ثمّ يكون الامتثال في رتبة الإلزام الذي به تتحقق براءة الذّمة، وهذا الاحتمال لا يحتاج إلى البيان أو التأكيد، وذلك أنه تحصيل حاصل، فمالك الأشتر هو في الأصل يدين لله تعالى بإمامة علي (عليه السلام)، ومن ثمّ فالامتثال من مقتضيات الشريعة والعقيدة.
وعليه: لابد من أمرّ آخر دعا أمير المؤمنين عليه السلام بأن يبتدأ أوامره ونواهيه لمالك.
2 ـ أن يكون الأمر في الوجوب هو من مقتضيات الحكم وإدارة الدولة وصلاح البلاد والعباد، أي أن يكون الاهتمام بهذا العهد لبيان ثقل مسؤولية الولاية والحكم لما يرتبط بها من شؤون العباد كما بينَّ (عليه السلام) في كتابته لهذا العهد خطورة الحكم، وذلك لتماسه مع الحقوق التي تكون على شفى حفرة من النار فيما لو انتهكت هذه الحدود، بل بلَغ الأمر إلى المستوى الذي يطالب به (عليه السلام) مالك الأشتر أن يساوي في النظرة والالتفاتة إلى الجالسين بين يديه، فما بالك ببقية الحقوق التي للرعية والعباد؟!.
ومن ثمّ: فهذا الاحتمال مع أهميته إلاّ أنّه ليس هو الهدف، بل أحد الوسائل والمبادرات للوصول الى الغاية وتحقيق الهدف.
3 ـ أن يكون الأمر متعلق بطبيعة الولاية التي عهد إليه بتوليّ أمرها، أي أرض مصر وشعبها، وهو ما دعاه (عليه السلام) في الأساس من عزل محمد بن أبي بكر(رحمه الله) عنها، وتوليته لمالك الأشتر، ولاسيما وقد كشف قوله (عليه السلام) في أمر التولية عن هذه الخصوصية الخاصة لأرض مصر، فقد كتب له قائلاً:
«أما بعد، فإنّك ممن أستظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وأَسْدُ به الثغر المخوف، وقد كنت وليت محمد بن أبي بكر مصر فخرجت عليه [ بها ] خوارج، وهو غلام حدث السن، ليس بذي تجربة للحروب ولا مجربا للأشياء، فاقدم علي لننظر فيما ينبغي، واستخلف على عملك أهل الثقة والنصيحة [من أصحابك] والسلام»[2].
وهذا الاحتمال هو في عامة العهد والتوليّ ولا يكشف عن الغاية في الأمر بأتباع ما تضمّنه العهد.
4 ـ إن الأمر كان غرضه تحصين نفس مالك الأشتر ونجاته يوم القيامة، وذلك لإيراده حرف اللام في «نفسك» فخصه بما يوجب عليه أن يجتهد في أحرازه، وهو نجاة نفسه وخلاصها مما يكون سببا في ايذائها أو هلاكها عبر الوقوع في الذنوب والآثام، ومن ثمّ: فقد قال له: «وتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ».
أي: بيان الضابطة والقاعدة التي يرتكز عليها فقه صناعة الإنسان، وهي أن يستحضر الإنسان في نهاره وليله، وفعله وتركه، وقوله وصمته، نجاة نفسه وحفظها، فهي غاية ما تحرص عليه الشريعة فبطاعة الله تعالى فيما أمر ونهى تنال النفس نجاتها.
ولذا: نجد النصوص الكثيرة التي بينت خطورة الركون الى الهوى، فمنها:
1 ـ قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41 -41].
2 ـ عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله:
يَقُولُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: وعِزَّتِي وجَلَالِي وعَظَمَتِي وكِبْرِيَائِي ونُورِي وعُلُوِّي وارْتِفَاعِ مَكَانِي لَا يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَاه عَلَى هَوَايَ إِلَّا شَتَّتُّ عَلَيْه أَمْرَه ولَبَّسْتُ عَلَيْه دُنْيَاه وشَغَلْتُ قَلْبَه بِهَا ولَمْ أُؤْتِه مِنْهَا إِلَّا مَا قَدَّرْتُ لَه وعِزَّتِي وجَلَالِي وعَظَمَتِي ونُورِي وعُلُوِّي وارْتِفَاعِ مَكَانِي لَا يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَايَ عَلَى هَوَاه إِلَّا اسْتَحْفَظْتُه مَلَائِكَتِي وكَفَّلْتُ السَّمَاوَاتِ والأَرَضِينَ رِزْقَه وكُنْتُ لَه مِنْ وَرَاءِ تِجَارَةِ كُلِّ تَاجِرٍ وأَتَتْه الدُّنْيَا وهِيَ رَاغِمَةٌ»[3].
3ـ قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
«أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ، اثْنَانِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وطُولُ الأَمَلِ، فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ»[4].
4 ـ عن أبي محمد الوابشي، قال: سمعت أبا عبد الله [جعفر بن محمد الصادق] (عليهما السلام)، يقول:
«احْذَرُوا أَهْوَاءَكُمْ كَمَا تَحْذَرُونَ أَعْدَاءَكُمْ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْدَى لِلرِّجَالِ مِنِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وحَصَائِدِ أَلْسِنَتِهِمْ»[5].
5 ـ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّه [جعفر بن محمد الصادق] (عليهما السلام)، يَقُولُ:
لَا تَدَعِ النَّفْسَ وهَوَاهَا، فَإِنَّ هَوَاهَا فِي رَدَاهَا، وتَرْكُ النَّفْسِ ومَا تَهْوَى أَذَاهَا، وكَفُّ النَّفْسِ عَمَّا تَهْوَى دَوَاهَا»[6].
وغيرها من النصوص الشريفة الكاشفة عن أثار هوى النفس في هلاك الإنسان، ونجاته بتركه هواه، وعدم الركون إليه، فبذلك تتحقق صناعة الإنسان وتهذيب النّفس.
ومن ثمّ يحتاج الإنسان إلى آلية الاجتهاد في اتباع ما أمرت به الشريعة كي تُنجيه من الوقوع في المحذور، وإنّ ارتكاز هذه الآلية تكون بترويض النّفس على الجد في إحراز تكاليفه في الحقوق والواجبات، فبذلك يتكون نجاته وتنمية ذاته وسمو مكانتها في الدنيا والآخرة.[7]
الهوامش:
[1] لسان العرب، ابن منظور: ج3 ص135
[2] الغارات، إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي: ج1 ص258
[3] الكافي، الكليني: ج2 ص 335
[4] نهج البلاغة، الخطبة: 42
[5] الكافي، الكليني: ج2 ص335
[6] المصدر السابق.
[7] لمزيد من الاطلاع، ينظر : فقه صناعة الإنسان ، الأوامر والنواهي في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر(رحمه الله) ، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق ، السيد نبيل الحسني، ص183- 188/ مع بعض الإضافة، إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة - العتبة الحسينية المقدسة ، ط 1 - دار الوارث كربلاء المقدسة 2023م