بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
قال عليه السلام في خطبة له في تهذيب الفقراء:
((أَمَّا بَعْدُ فَإنَّ الأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ كَقَطْرِ([1]) الْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ...- إلى أن يقول صلوات الله وسلامه عليه: - إِنَّ الْمَالَ والْبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا - والْعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الآخِرَةِ وقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللَّه تَعَالَى([2]) لأَقْوَامٍ فَاحْذَرُوا مِنَ اللَّه مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِه واخْشَوْه خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ، واعْمَلُوا فِي غَيْرِ رِيَاءٍ ولَا سُمْعَةٍ، فَإِنَّه مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللَّه يَكِلْه اللَّه لِمَنْ عَمِلَ لَه..))([3]).
شرح الألفاظ الغريبة:
التعذير: مصدر عذَّرَ تعذيراً. لم يثبت له عُذْر. يَكِلُهُ الله: يتركه، من وَكَلَ يَكِلُ. مثل وزن يزن([4]).
الشرح:
اعلم أنّ مدار هذا الفصل على تأديب الفقراء يترك الحسد ونحوه أولاً، وعلى تأديب الأغنياء بالشفقة على الفقراء ومواساتهم بالفضل من المال وتزهيدهم جمعه ثانياً.
فقوله: ((أمّا بعد فإنّ الأمر ينزل...)) إلى قوله: ((أو نقصان)):
صدر الخطبة أورده ليبني عليه غرضه، وحاصله: الإشارة إلى أنّ كلّ ما يحدث من زيادة أو نقصان ويتجدد فيما يكون به صلاح حال الخلق في معاشهم ومعادهم من صحّة، أو مال، أو علم، أو جاه، أو أهل؛ فإنّه صادر عن القسمة الربانيّة المكتوبة بقلم القضاء الإلهيّ في اللّوح المحفوظ، الذي هو خزانة كلّ شيء.
والمراد بالأمر حكم القدرة الإلهيّة على الممكنات بالوجود، وهو المعبّر عنه بقوله تعالى: {كُنْ}([5]) في قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} الآية([6])، وبنزوله: نسبة حصوله إلى كلّ نفس بما قسم لها، وهي النسبة المسماّة بالقدر في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}([7])
والمراد بالسماء: سماء الجود الإلهيّ، وبالأرض: عالم الكون والفساد على سبيل استعارة هذين اللفظين للمعنين المعقولين من المحسوسين.
ووجه الاستعارة في الموضعين: مشاركة المعنيين المذكورين للسماء والأرض في معنيي العلوّ والاستفال، كلّ بالنسبة إلى الآخر، وإنّما لم تكن الحقيقة مرادة؛ لأنّ الأمر النازل ليس له جهة هي مبدأ نزوله، وإلا لكان الأمر في جهته تعالى الله عن ذلك.
ويحتمل أن يراد حقيقة السماء والأرض على معنى أنّ الحركات الفلكية لما كانت شرائط معدّة يصدر بواسطتها ما يحدث في الأرض؛ كانت السماء مبادئ على بعض الوجوه لنزول الأمر.
فأمّا تشبيهه بقطر المطر فوجه التشبيه أنّ حصول الرزق والأهل، ونحوهما لكلّ نفس وقسمها منها مختلف بالزيادة والنقصان، كما أنّ قَطْرَ المطر بالقياس إلى كلّ واحدة من البقاع كذلك؛ وهو تشبيه للمعقول بالمحسوس.
قوله: ((إنّ المال والبنين حرث الدنيا..)) إلى قوله: ((لأقوال)):
أقول: لماّ بيّن – فيما سبق من التشبيه وغيره – أنّ تارك الرذائل المذكورة ونحوها المنتظر للحسنى من الله فائز؛ أردف ذلك بالتنبيه على تحقير المقتنيات التي ينشأ منها التنافس، ومنها الرذائل المذكورة، فذكر أعظمها وأهمها عند الناس وهو المال والبنون، فإنّهما أعظم الأسباب الموجبة لصلاح الحال في الحياة الدنيا، وأشرف القنيات الحاضرة كما قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}([8]).
ونبّه على تحقيرهما بالنسبة إلى العمل الصالح بكونهم من حرف الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة.
والمقدّمة الأولى من هذا الاحتجاج صغرى ضمير تقدير كبراه: وحرث الدنيا حقير عند حرث الآخرة.
فينتج أنّ المال والبنين حقيران بالنسبة إلى حرث الآخرة.
وقد ثبت في المقدّمة الثانية: أنّ حرث الآخرة هو العمل الصالح. فإذن: المال والبنون حقيران بالنسبة إلى العمل الصالح.
أمّا المقدّمة الأولى: فظاهرة؛ إذ لا حصول للمال والبنين في غير الدنيا.
وأمّا بيان الثانية فمن وجهين:
أحدهما: قوله تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}([9])، وظاهر أنّه لا يريد قلّة الكميّة، بل المراد حقارته بالنسبة إلى متاع الآخرة ولذّتها. [الوجه] الثاني: أنّ حرث الدنيا من الأمور الفانية، وحرث الآخرة من الأمور الباقية الموجبة للسعادة الأبديّة، والفانيات الطالحات ظاهرة الحقارة بالنسبة إلى الباقيات الصالحات، كما قال تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}([10]).
ثمّ نبّه السامعين بقوله: وقد يجمعهما الله لأقوام؛ على وجوب الالتفات إلى الله تعالى والتوكل عليه؛ وذلك أنّ الجمع بين حرث الدنيا والآخرة لما كان في طباع كلّ عاقل طلب تحصيله، وكان حصوله إنّما هو من الله دون غيره لمن يشاء من عباده. ذكر عليه السلام ذلك: ليفرغ الطالبون للسعادة إلى جهة تحصيلها وهو التقرّب إلى الله بوجوه الوسائل، والإعراض عما لا يجدي طائلاً من الحسد ونحوه، ثمّ أكد ذلك الجذب بالتحذير ممّا حذره الله من نفسه، والأمر بالخشية الصادقة البريئة من التعذير المستلزمة لترك محارمه، ولزوم حدوده الجاذبة إلى الزهد الحقيقي، ثمّ أردف ذلك بالأمر بالعمل لله البريء من الرياء والسمعة، وهو إشارة إلى العبادة الخالصة لله والمستلزم لتطويع النفس الأمارة بالسوء للنفس المطمئنة وقد ثبت في علم السلوك إلى الله تعالى أن الزهد والعبادة كيف يوصلان إلى السعادة التامّة الأبديّة([11]) )([12]).
الهوامش:
([1]) فيجمع النسخ كقطرات، والمثبت من نهج العطّار.
([2]) كلمة (تعالى): ليست في نهج البلاغة للشيخ العطار
([3]) نهج البلاغة لصبحي صالح: 64- 65/ خطبة رقم 32، نهج البلاغة للشيخ العطار: 78/ خطبة رقم 23، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 2:3/ خطبة رقم 22، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 67-68.
([4]) شرح الألفاظ الغريبة: 572.
([5]) النحل: 40.
([6]) الآية نفسها.
([7]) الحجر: 21.
([8]) الكهف: 46.
([9]) التوبة: 38.
([10]) الكهف: 46.
([11]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4-9/ شرح الخطبة رقم 22.
([12]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 12-16.