بقلم: د. قاسم خلف السكيني.
الحمد لله رب العالمين، عليه نتوكل وبه تعالى نستعين، سبحانه (الذي بطن خفيات الأمور، ودلت عليه أعلام الظهور، وامتنع على عين البصير، فلا عين من لم يره تنكره، ولا قلب من أثبته يبصره). وصلوات ربي الزاكيات، وسلامه الموفور بالخير والبركات، على خير خلقه، وخاتم رسله، محمد وعلى آله الطاهرين.
وبعد:
قال عليه السلام: أَفْضَلُ الزُّهْدِ، إِخْفـَاْءُ الزُّهـْدِ([1])
الزهد: ضد الرغبة([2]). والمراد من هذه الحكمة، أن يزهد الإنسان في الزهد نفسه فلا يظهره، فمن الأفضل إخفاؤه وقد روي عن الإمام أن: (الزهد في الدنيا الأمل وشكر كل نعمة والورع عما حرّم الله)([3]).
.ولعل من المهم الإشارة هنا إلى أن ظاهرة الزهد من الشبهات التي أثيرت حول النهج، ومفاد الشبهة حول كيفية الجمع بين خوض الإمام (عليه السلام) الحروب والقتال وفلق هامات الرجال، وبين رقة الزهد والمواقف الداعية إلى تجنب زخارف الدنيا. وهذه الشبهة من أوهن الشبهات، وقد ردها السر خسي بقوله: (من راجع كلمات الإمام علي (عليه السلام) وتفكر في معانيها، علم أن المقصود من الزهد وترك الدنيا في (النهج)، هو عدم المحبة للدنيا والركون إليها، ونسيان الآخرة وإتباع هوى النفس، والميل إلى الشهوات واتخاذ الأموال من الحرام)([4]).
وقد أتضح منهج الإمام (عليه السلام) في سيرته، فكم من موقف سجله المؤرخون لعلي (عليه السلام) في استشعار الخوف من الله سبحانه، ولا أشهر من وضع الحديد في النار لأخيه عقيل حين جاءه مستعينا به على عياله. أو خطابه لعماله موبخا إياهم، محذرا من التطاول في البناء، والميل إلى الأغنياء، من ذلك - على سبيل المثال - رسالته إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة حين دعي إلى وليمة: (بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو... ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه...)([5]). والحق أن إثارة مثل هذه الشبهات، تنم عن قصور في معرفة شخصية الإمام (عليه السلام)، لأن من أسرار شخصيته (عليه السلام) تطابق أقواله مع أفعاله، فالزهد عند الإمام ترك مغريات الدنيا.
وفي ما يخص الرواية، فإن ما جاء في الترجمة، هو وجه روائي أحادي لا نرجح رفعه إلى المتن وأن تكرار (الزهد) فيه دلالة التأكيد على الزهد)([6]).
الهوامش:
([1]) رويت في الترجمة 2/ 425: (أفضل الزهد إخفاؤه). ورويت بلفظ المتن في: العيون ص 119، والدستور ص20، والحدائق 2/114، وشرح الغرر 6/219، والمنهاج 3/280، وشرح ابن أبي الحديد 18/175، وشرح البحراني 5/291، والمصباح ص 626.
([2]) اللسان: (زهد).
([3]) معاني الأخبار: الشيخ الصدوق ص 351.
([4]) أعلام نهج البلاغة: ص23.
([5]) شرح نهج البلاغة: البحراني، 5/ 98، والعائل المجفو: الفقير الذي لديه عيال وقد جفاه الناس.
([6]) لمزيد من الاطلاع ينظر: شرح حكم الإمام علي وتحقيقها من شروح نهج البلاغة: للدكتور قاسم خلف مشاري السكيني، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص51-52.