الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام في خطبة له (عليه السلام) خطبها في توحيد الله

سلسلة قصار الحكم

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام في خطبة له (عليه السلام) خطبها في توحيد الله

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 11-03-2024

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
مَا وَحَّدَه مَنْ كَيَّفَه، ولَا حَقِيقَتَه أَصَابَ مَنْ مَثَّلَه، ولَا إِيَّاه عَنَى مَنْ شَبَّهَه، ولَا صَمَدَه مَنْ أَشَارَ إِلَيْه وتَوَهَّمَه -  إلى أن يقول عليه السلام: - ولَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا واخْتِرَاعِهَا، وكَيْفَ ولَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا - مِنْ طَيْرِهَا وبَهَائِمِهَا، ومَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وسَائِمِهَا، وأَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وأَجْنَاسِهَا، ومُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وأَكْيَاسِهَا - عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا، ولَا عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا -  إلى أن يقول عليه السلام –(وإِنَّ اللَّه سُبْحَانَه)[1] يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَه لَا شَيْءَ مَعَه، كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا، بِلَا وَقْتٍ ولَا مَكَانٍ ولَا حِينٍ ولَا زَمَانٍ – إلى أن يقول عليه السلام - ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا، لَا لِسَأَمٍ دَخَلَ عَلَيْه فِي تَصْرِيفِهَا وتَدْبِيرِهَا، ولَا لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَيْه، ولَا لِثِقَلِ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْه.
 لَا يُمِلُّه طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَه إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا، ولَكِنَّه سُبْحَانَه دَبَّرَهَا بِلُطْفِه، وأَمْسَكَهَا بِأَمْرِه وأَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِه.
 ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْه إِلَيْهَا، ولَا اسْتِعَانَةٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا، ولَا لِانْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَةٍ إِلَى حَالِ اسْتِئْنَاسٍ، ولَا مِنْ حَالِ جَهْلٍ وعَمًى إِلَى حَالِ عِلْمٍ والْتِمَاسٍ، ولَا مِنْ فَقْرٍ وحَاجَةٍ إِلَى غِنًى وكَثْرَةٍ ، ولَا مِنْ ذُلٍّ وضَعَةٍ إِلَى عِزٍّ وقُدْرَةٍ[2]

شرح الألفاظ الغريبة:
صمده: قصده؛ مراحها: - بضمّ الميم – اسم مفعول من أراح الإبل، ردّها إلى المراح – بالضمّ كالمناخ – أي المأوى؛ السائم: الراعي يريد ما كان في مأواه وما كان في مرعاه؛ الأسناخ: الأصول، والمراد منها الأنواع، أي الأصناف الداخلة في أنواعها؛ المتبلدة: أي الغيبة؛ الأكياس: جمع كيس – بالتشديد – العاقل الحاذق[3].

الشرح:
اعلم أنّ مدار هذه الخطبة على التوحيد المطلق والتنزيه المحقق، وقد أشار إلى توحيده تعالى وتنزيهه باعتبارات من الصفات الإضافية والسلبية.
فالأولى: ((قوله: ما وحده من كيفه)): دلت هذه الكلمة بالمطابقة على سلب التوحيد له تعالى عمن وصفه بكيفية وبالالتزام على أنّه لا يجوز تكيفه لمنافاة ذلك التوحيد الواجب له تعالى.
قوله: ((وليس فناء الدنيا...)) إلى قوله : ((اختراعها)): رفع لما يعرض لبعض الأذهان من التعجب بفناء هذا العالم بعد ابتداعه وخلقه بالتنبيه على حال إنشائه واختراعه: أي ليس صيرورة ما خلق إلى العدم بقدرته بعد الوجود بأعجب من صيرورته إلى الوجود بعد العدم عنها، إذ كانت كلها ممكنة قابلة للوجود والعدم لذواتها؛ بل صيرورتها إلى الوجود المشتمل على أعاجيب الخلقة وأسرار الحكمة التي لا يهتدي لها ولا يقدر على شيء منها أعجب وأغرب من عدمها الذي لا كلفة فيه.
وقوله: ((وكيف لو اجتمع...)) إلى قوله: ((إفنائها)): تأكيد لنفي كون عدمها بعد وجودها أعجب من إيجادها بالتنبيه على عظم مخلوقاته تعالى ومكوناته، وما اشتملت عليه من أسرار الحكمة المنسبة إلى قدرته، والمعنى وكيف يكون عدمها أعجب وفي إيجادها أضعف حيوان وأصغره مما خلق كالبعوضة من العجائب والغرائب والإعجاز ما يعجز عن تكوينه وإحداثه قدرة كل من تنسب إليه القدرة، وتقصر عن معرفة الطريق إلى إيجادها ألباب الألباء، ويتحير في كيفية خلقها حكمة الحكماء، ويقف دون علم ذلك ويتناهى عقول العقلاء، وترجع خاسئة حسيرة مقهورة معترفه بالعجز عن الاطلاع على كنه صنعه في إنشائها مقرة بالضعف عن إنفائها...
وقوله: ((وإنه سبحانه يعود...)) إلى قوله: ((الأمور)): إشارة إلى كونه تعالى باقياً أبداً فيبقى بعد فناء الأشياء وحده لا شيء معه منها كما كان قبل وجوده كذلك بريئاً عن لحوق الوقت والمكان والحيز والزمان.
وقوله: ((يعود بعد)) إشعار بتغير من حالة سبقت إلى حالة لحقت، وهما يعودان إلى ما يعتبره أذهاننا له من تقدمه على وجودها وحالة تأخره عنها بعد عدمها، وهما اعتباران ذهنيان يلحقانه بالقياس إلى مخلوقاته...
 قوله: ((ثمّ يعيدها بعد الفناء)): تصريح بإعادة الأشياء بعد فنائها، وفنائها إمّا عدمها كما هو مذهب من جوز إعادة المعدوم أو تشذ بها وتفرقها وخروجها عن حد الانتفاع هو مذهب أبي الحسن البصري من المعتزلة.
وقوله: ((من غير حاجة...)) إلى آخره: ذكر وجوه الأعراض الصالحة في الإعادة، والإشارة إلى نفيها عنه تعالى، وهو أيضاً كالحاجة إليها والاستعانة ببعضها على بعض، أو لانصراف من حال وحشة إلى حال استيناس، أو انصراف من حال جهل وعمى فيه إلى حال علم وبصيرة، وكذلك من فقر وحاجة إلى غنى وكثرة، ومن ذل وضعة إلى عز وقدرة. وقد عرفت أن كل هذه الأعراض من باب دفع المضرة المنزه قدسه تعالى عنها، وقد بينا فيما سلف البرهان الإجمالي على تنزيهه تعالى في أفعاله من الأغراض بل إيجاده لما يوجد لمحض الجود الإلهي الذي لا بخل فيه، ولا منع من جهته فهو الجواد المطلق والملك المطلق الذي يفيد ما ينبغي لا لغرض ويوجد ما يوجد لا لفائدة تعود إليه ولا غرض، وهو مذهب جمهور أهل السنة والفلاسفة، والخلاف فيه مع المعتزلة.
فإن قلت: ظاهر كلامه عليه السلام مشعر بأن الدنيا كما تفنى تعاد، والذي وردت به الشريعة وفيه الخلافة بين جمهور المتكلمين والحكماء هو إعادة الأبدان البشرية.
وقوله: ((ثم يعيدها بعد الفناء)): فدل عودها إلى اعتبار أذهان العارفين لها عند عوجهم من الجناب المقدس إلى الجنبة السافلة واشتغالهم بمصالح أبدانهم، والكل منسوب إلى تصريف قدرته تعالى بحسب استعداد الأذهان لقبولها وحذفها، وقد علمت من بيانها لهذه الخطبة صدق كلام السيد الرضي رضى الله عنه في مدحها حيث قال: وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه غيرها فإنها بالغة في علم التوحيد كاملة في علم التنزيه والتقديس لجلال الواحد الحق جلت عظمته، وبالله التوفيق والعصمة[4]) ([5]).

الهوامش:
[1] ما بين القوسين في نهج البلاغة للشيخ العطار: (وأنّه سبحانه).
[2] نهج البلاغة لصبحي صالح: 273- 276/ خطبة رقم 186، ونهج البلاغة للشيخ العطار: 363- 370/ خطبة رقم 186، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 4: 146-150/ خطبة رقم 228، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 376-383.
[3] شرح الألفاظ الغريبة: 647، والألفاظ الغريبة لابن ميثم 4: 150.
[4] شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4: 151-182/ شرح الخطبة رقم 228.
([5]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 203-208.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2536 Seconds