بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
فَاللَّه اللَّه عِبَادَ اللَّه! فَإِنَّ الدُّنْيَا مَاضِيَةٌ بِكُمْ عَلَى سَنَنٍ، وأَنْتُمْ والسَّاعَةُ فِي قَرَنٍ. وكَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا، وأَزِفَتْ بِأَفْرَاطِهَا، ووَقَفَتْ بِكُمْ عَلَى صِرَاطِهَا([1]) وكَأَنَّهَا قَدْ أَشْرَفَتْ بِزَلَازِلِهَا، وأَنَاخَتْ بِكَلَاكِلِهَا، وانْصَرَمَتِ([2]) الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا، وأَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا، فَكَانَتْ كَيَوْمٍ مَضَى، أَوْ شَهْرٍ([3]) انْقَضَى ، وصَارَ جَدِيدُهَا رَثّاً، وسَمِينُهَا غَثّاً، فِي مَوْقِفٍ ضَنْكِ الْمَقَامِ، وأُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ عِظَامٍ، ونَارٍ شَدِيدٍ كَلَبُهَا، عَالٍ لَجَبُهَا، سَاطِعٍ لَهَبُهَا، مُتَغَيِّظٍ زَفِيرُهَا، مُتَأَجِّجٍ سَعِيرُهَا، بَعِيدٍ خُمُودُهَا، ذَاكٍ وُقُودُهَا، مَخُوفٍ([4]) وَعِيدُهَا، عَمٍ([5]) قَرَارُهَا، مُظْلِمَةٍ أَقْطَارُهَا، حَامِيَةٍ قُدُورُهَا، فَظِيعَةٍ أُمُورُهَا، ﴿وسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ﴾([6]) قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ، وانْقَطَعَ الْعِتَابُ، وزُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ، واطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ، ورَضُوا الْمَثْوَى والْقَرَارَ، الَّذِينَ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا زَاكِيَةً، وأَعْيُنُهُمْ بَاكِيَةً، وكَانَ لَيْلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ نَهَاراً، تَخَشُّعاً واسْتِغْفَارًا، وكَانَ نَهَارُهُمْ لَيْلًا، تَوَحُّشاً وانْقِطَاعاً، فَجَعَلَ اللَّه لَهُمُ الْجَنَّةَ مَآباً، والْجَزَاءَ ثَوَاباً، ﴿وكانُوا أَحَقَّ بِها وأَهْلَها﴾([7]) فِي مُلْكٍ دَائِمٍ ونَعِيمٍ قَائِمٍ([8]) ...
شرح الألفاظ الغريبة:
سننٍ: طريق معروف، والمراد أن الدنيا تفعل بكم فعلها بمن سبقكم؛ القرن: - محركاً – ما يقرن به البعيران؛ الأشراط: العلامات؛ أزفت: قربت؛ الأفراط: - جمع فرط – بسكون الراء – وهو العلم المستقيم يهتدى به، أي بدلائلها؛ الكلاكل:
الصدور، كناية عن الأثقال؛ انصرمت: تقطعت؛ الرث: البالي؛ الغث: المهزول؛ الكلب: - محركاً – أكل بلا شبع؛ اللجب: الصياح أو الاضطراب؛ التغيظ: الهيجان؛ الزفير: صوت توقد النار؛ ذكت النار: اشتد لهيبها؛ عم قرارها: أي لا يهتدي فيه لظلمته، ولأنه عميق جداً؛ التوحش: عدم الاستئناس بشؤون الدنيا والركون إليها([9]).
الشرح:
قوله: ((وأنتم والساعة في قرن)): كناية عن قربها القريب منهم حتى كأنهم معها في قرن واحد.
وقوله: ((وكأنها قد جاءت بأشراطها)): تشبيه لها في سرعة مجيئها بالتي جاءت وحضرت. وأكد ذلك التشبيه بـ ((قد)) المفيدة لتحقيق المجيء. وعلاماتها كظهور الدجال، ودابة الأرض، وظهور المهدي وعيسى عليهما السلام إلى غير ذلك.
وكذلك قوله: ((وأزفت بأفرطها ووقفت بكم على صراطها...)) إلى قوله: ((وسمينها غثاً)): أي وتحقق وقوفها بكم على صراطها بكم وهو الصراط المعهود فيها.
وقوله: ((وكأنها قد أشرفت بزلازلها)): أي أشبهت فيما يتوقع منها من هذه الأحوال في حقكم حالها في إيقاعها بحكم وتحقيقها فيكم، واستعار لفظ الكلاكل لأهوالها الثقيلة، ووصف الإناخة لهجومها بتلك الأهوال عليهم ملاحظاً في ذلك تشبهها بالناقة، وإنما حسن تعديد الكلاكل لها باعتبار تعدّد أهوالها الثقيلة النازلة بهم. ولّما كانت الأفعال من قوله: ((وأناخت...)) إلى قوله: ((فصار سمينها غثّاً))، معطوفاً بعضها على بعض دخلت في حكم الشبه: أي وكانت الدنيا قد انصرفت بأهلها وكأنكم قد أُخرجتم من حصنها إلى آخر الأفعال.
والمشبّه الأوّل: هو الدنيا باعتبار حالها الحاضرة والمشبّه به إنصرافها بأهلها وزوالهم، ووجه الشبه سرعة المضيّ: أي كأنّها من سرعة أحوالها الحاضرة كالّتي وقع انصرافها، وكذلك الوجه في باقي التشبيهات، واستعار لفظ الحضن لها ملاحظة لشبهها بالأمّ التي تحضن ولدها فينتزع من حضنها.
والسمين والغثّ، تحتمل أن يريد بهما الحقيقة، ويحتمل أن يكنّى به عن ما كثر من لذّاتها وخيراتها وتغيّر ذلك بالموت وزواله.
وقوله: ((في موقف)) يتعلّق بـ ((صار))؛ والموقف هو موقف القيامة، والظاهر أنّ كلّ جديد للدنيا يومئذٍ رثّ، وكلّ سمين كان بها غثّ، وضيق الموقف إمّا لكثرة الخلق يومئذٍ وازدحامهم أو لصعوبة الوقوف به وطولهم مع ما يتوقع الظالمون لأنفسهم من إنزال المكروه بهم والأمور المشتبهة العظام أهوال الآخرة، واشتباهها كونها ملبسة يتحير في وجه الخلاص منها. والاعتبار يحكم بكونها عظيمة، وظاهر كون النار شديدة الشرّ وقد نطق القرآن الكريم بأكثر مما وصفها عليه السلام به هاهنا من علوّ أصواتها، وسطوح لهبها، وتغيّظ زفيرها، كقوله تعالى: ﴿ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾([10])، وقوله: ﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾([11]) ولفظ التغيّظ مستعار للنار باعتبار حركتها بشدّة وعنف كالغضبان أو باعتبار استلزام حركتها ظاهر للأذى والشرّ.
وقوله: ((عَمٍ قرارها)): أسند العمى إلى قرارها مجازاً باعتبار أنّه لا يهتدي فيه لظلمته أو لأنّ عمقها لا يوقف عليه لبعده، ولّما استعار لفظ الحمى رشّح بذكر القدور، وظاهر فظاعة تلك الأمور وشدّتها، وكلّ تلك الأُمور عدّدها في معرض التخويف لكونها مخوفة تنفيراً لما يلزم عنه من ترك التقوى واتباع الهوى، ثمّ ساق الآية اقتباساً، ونسق بعدها أحوال المتقين في الآخرة اللازمة عن تقويهم وهي أمنهم من العذاب وانقطاع العقاب عنهم وإبعادهم عن النار واطمينان الدار التي هي الجنّة بهم ورضاهم بها مثوى وقراراً ترغيباً في التقوى بذكر لوازمها.
ثمّ أردف ذلك بصفات المتقين أيضاً عمّا عساه لا يعرفها فقال: هم ((الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية)): أي طاهره من الرياء والشرك الخفّي، ((وأعينهم باكية)): أي من خشية الله، وخوف عقابه وحرمانه، ((وكان ليلهم في دنياهم نهاراً)): في كونه محلّ حركاتهم في عبادة ربهم وتخشعهم له واستغفارهم إياه فأشبه النهار الذي هو محل حركات الخلق، ولهذا الشبه استعار لفظ النهار لليل وكذلك استعار لفظ الليل للنهار ووجه الاستعارة كون النهار محلا لتوحشهم من الخلق وانقطاعهم عنه واعتزالهم إياه كالليل الذي هو محل انقطاع الناس بعضهم عن بعض وافتراقهم، وفي نسخة الرضي رحمه الله بخطه: كأنّ للتشبيه رفع نهاراً في القرينة الأولى، ورفع ليلاً في الثانية، ووجه التشبيه هو ما ذكرناه، وكأنه يقول: فلما استعدوا بتلك الصفات للحصول على الفضائل والكمالات واستوجبوا رضي الله تعالى عنهم جعل الله لهم الجنة مرجعاً ومآباً أعدّ فيها من جزاء النعيم ثواباً وكانوا أحقّ بها وأهلها، وهو اقتباس.
وقوله: ((في ملك..)) إلى قوله: ((قائم)): أي مقيم، تفسير للجزاء، ثم أكد الأمر بالتقوى برعايتها في عبارة أخرى نبه فيها على بعض لوازمها، وذلك أن فوز الفائزين إنما يكون بالتقوى ولزوم الأعمال الصالحات، والمبطلون هم الذين لا حق معهم فهم الخارجون عن التقوى الحقة، وإنما يلحقهم الخسران بالخروج عنها([12]))([13]).
الهوامش:
([1]) في نهج البلاغة للشيخ العطار: سِرَاط.
([2]) في نهج البلاغة للشيخ العطار: وَاٌنْصَرَفَت.
([3]) في نهج البلاغة للشيخ العطار: وَشَهْرٍ.
([4]) في شرح نهج البلاغة لابن ميثم ونهج محمد عبده: مُخِيفٍ.
([5]) في نهج البلاغة للشيخ محمد عبده: غَمًّ
([6]) الزمر: 73.
([7]) الفتح: 26.
([8]) نهج البلاغة لصبحي صالح: 280-282/ خطبة رقم 190، ونهج البلاغة للشيخ العطار: 376-377/ خطبة رقم 190، ونهج البلاغة لابن ميثم 4: 202-203/ خطبة رقم 232، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 389-390.
([9]) شرح الألفاظ الغريبة: 648-649.
([10]) الملك: 7-8.
([11]) الفرقان: 12.
([12]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4: 207-209/ شرح الخطبة رقم 232.
([13]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 211-216.