الدنيا في كلام له (عليه السلام) خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم

سلسلة قصار الحكم

الدنيا في كلام له (عليه السلام) خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم

331 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 16-06-2025

بقلم: السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَى الله، فَلْيَفْعَلْ. فَإِنْ أَطَعْتُمُونِي فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ الله عَلَى سَبِيلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَمَذَاقَةٍ مَرِيرَة - إلى أن يقول (عليه السلام) في وصف الإيمان : - سَبِيلٌ أَبْلَجُ الْمِنْهَاجِ، أَنْوَرُ السِّرَاجِ، فَبِالْإِيْمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحَاتِ، وَبِالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْإِيْمَانِ، وَبِالْإِيْمَانِ يُعْمَرُ الْعِلْمُ، وَبِالْعِلْمِ يُرْهَبُ الْمَوْتُ، وَبِالْمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْيَا وَ بِالدُّنْيَا تُحْرَزُ الْآخِرَةُ وَبِالْقِيَامَةِ تُزْلَفُ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَتُبْرَزُ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ، وَإِنَّ الْخَلْقَ لَا مَقْصَرَ لَهُمْ عَنِ الْقِيَامَةِ؛ مُرْقِلِينَ فِي مِضْمَارِهَا إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى([1]).

شرح الألفاظ الغريبة:
اعتقل نفسه: أي ضبطها وحبها؛ والضغن الحقد والمرجل: القدر: المقصر: كمقعد - أي المجلس، أي لا مستقر لهم دون القيامة؛ مرقلين : مسرعين([2]).

الشرح:
قوله: «عن ذلك»: يقتضي أنه سبق منه قبل هذا الفصل ذكر فتن وحروب يقع بين المسلمين وجب على من أدركها أن يحبس نفسه على طاعة الله دون مخالطتها والدخول فيها، «وسبيل الجنة»: هو الدين القيم، وظاهر شرط حمله لهم عليه بالطاعة، إذ لا رأي لمن لا يطاع، ونيه على أن من الدين الحق ما هو ذو مشقة شديدة ومذاقة مريرة كالجهاد، وكذلك سائر التكاليف لها مشقة.

مبدأ الفصل في وصف الإيمان، والمراد بالإيمان التصديق القلبي بالتوحيد وبما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) ولا شك في كونه سبيلاً أبلج واضح المسلك إلى الجنة أنور السراج في ظلمات الجهل، ولفظ السراج: مستعار، والصالحات هي الأعمال الصالحات من سائر العبادات ومكارم الأخلاق التي وردت بها الشريعة، وظاهر كونها معلولات للإيمان وثمرات له يستدل بوجوده في قلب العبد على ملازمته لها استدلالاً بالعلة على المعلول، ويستدل بصدورها من العبد على وجود الإيمان في قلبه استدلالاً بالمعلول على العلة.
وأما قوله: «وبالإيمان يعمر العلم»: فلأن الإيمان بالتفسير المذكور إذا عضده البرهان كان علم وهو روح العلم، ويطلق اسم الإيمان عليه مع ثمراته، وهي الأعمال الصالحة لأنها من كمالاته ولإتمام له ولا منفعة بدونها فإن العلم إذا لم يعضد بالعمل فهو قليل الفائدة في الآخرة بل لا ثمرة له فهو كالخراب الغير صالح للاقتناء فكما لا يصلح الخراب للسكنى فكذلك العلم الخالي عن الأعمال الصالحة فلذلك قال (عليه السلام) في موضع آخر: العلم مقرون بالعمل([3]). والعلم يهتف بالعمل فإن جاء به وإلا ارتحل([4]).
وأما قوله: «وبالعلم يرهب الموت»: فلأن العلم بالله تعالى وغاية خلقه للإنسان وملاحظة نسبة الدنيا إلى الآخرة، والعلم بأحوال المعاد يستلزم ذكر الموت ودوام ملاحظته وكذلك مستلزم لرهبته والعمل له ولما بعده.
وقوله: «وبالموت يختم الدنيا»: ظاهر إذ الدنيا عبارة عما فيه الإنسان قبل الموت من التصرفات البدنية.
وقوله: «وبالدنيا تحرز الآخرة»: إشارة إلى أن الدنيا محل الاستعداد لتحصيل الزاد ليوم المعاد، وفيها يحصل كمال النفوس الذي تحرز به سعادة الآخرة، وقد سبق بيانه. وقوله: «وبالقيامة تزلف الجنة للمتقين وتبرز الجحيم للغاوين»: إشارة لطيفة ذكرناها غير مرة، وهو أن بالموت وطرح جلباب البدن يتبين ما للإنسان وما عليه مما قدم من خير أو شر وإن كانت ثمرة ذلك أثراً حاصلاً للنفس في الدنيا لأن التألم به والالتذاذ إنما يحصل لها بعد طرح البدن، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أمداً بعيداً}([5]) ولفظ الإزلاف والبروز يشهد بذلك لأن فيه معنى الظهور : أي ظهور الإدراك إذن .
وقوله: «وإنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة ....» إلى آخره:
كلام في غاية الحسن مع غزارة الفائدة، وهو إشارة إلى أنه لابد لهم من ورود القيامة.
[وقوله]: «ومضمارها»: مدة الحياة الدنيا، وهو لفظ مستعار، ووجه المشابهة كون تلك المدة محل استعداد النفوس للسياق إلى حضرة الله كما أن المضمار محل استعداد الخيل للسباق، وقد سبق بيان ذلك في قوله: «ألا وإن اليوم مضمار وغداً السباق».
وقوله: «مرقلين» حال، وإرقالهم كناية عن سيرهم المتوهم في مدة أعمارهم إلى الآخرة وسرعة حثيث الزمان بهم في إعداد أبدانهم للخراب.
[وقوله ]: «والغاية القصوى»: هي السعادة والشقاوة الأخروية([6]))([7]).

الهوامش:
([1]) نهج البلاغة الصبحي صالح: ۲۱۸ - ۲۱۹ من كلام له (عليه السلام) رقم ١٥٦، وفيه: (الغاية القصوى منها)، نهج الشيخ العطار: ٢٩٠ من كلام له رقم ١٥٦، وشرح النهج لابن ميثم ٣: ٢٥٨ -٢٦٠ من كلام له رقم ١٥٥، ونهج محمد عبده ۱: ۳۰۱ – ۳۰۲.
([2]) شرح الألفاظ الغريبة في شرح نهج ابن میثم3: 258، وشرح الألفاظ الغربية في نهج صبحي صالح: ٦٣٠.
([3]) الحكم من كلام الإمام أمير المؤمنين ٢: ٣٦ / حكمة رقم ٤٨٥.
([4]) الحكم من كلام الإمام أمير المؤمنين ۲ ۳۷ حكمة رقم ٥٠٢، وفيه : (فإن أجابه) بدل (فإن جاء به).
([5]) آل عمران: 30.
([6]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 258-262/ شرح كلامه عليه السلام رقم 155.
(([7])) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 307-310.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.5581 Seconds