القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة نظرة علي (عليه السلام) إلى الحياة كما تبدو في نهج البلاغة 3- الدنيا وصف

مقالات وبحوث

القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة نظرة علي (عليه السلام) إلى الحياة كما تبدو في نهج البلاغة 3- الدنيا وصف

7 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 15-12-2025

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:
لم تكن الدنيا مجرد زمان أو مكان في فكر علي عليه السلام، لأنه من ناحية ثالثة اضفى عليها اوصافا حسية ومعنوية، فهي تارة ذات طعم لذيذ يستسيغه المتذوق، ولون بهيج يروق للناظر، فيسلم لها قياده دون ان يعلم ان ذلك الطعم السائغ واللون الرائق، ما هو في حقيقته الا مظهرها الخارجي الزائف، الذي سرعان ما تتبدى عيوبه وتتكشف مساوئه ففي معرض تحذير الناس منها يقول «اني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات وتحببت بالعاجلة، وراقت بالقليل، وتحلت بالآمال، وتزينت بالغرور»([1]). وهي تارة ثانية متشكلة في اوصاف شتى، طبيعية مرئية، ومسموعة وذات حركة. وهي في اوصافها تلك، ينقصها الثبات، وتفتقر إلى الحقيقة والصدق، والموضوعية. فصفاتها مختلطة وممتزجة بحيث يتعذر تصنيفها، فهي طبيعية كونية من ناحية، وانسانية آخذة بزي محارب همه الاعتداء والسلب والنهب تارة ثانية، أو متشكلة في زي امرأة ذات طبيعة مغرية، وهي من ناحية ثالثة حيوان شرس لا يمكن ترويضه. والخلاصة انها جملة من السيئات التي تحاول غواية الإنسان وصده عن كل ما فيه مصلحته وسعادته فهي كما يراها علي عليه السلام «برقها خالب، ومنطقها كاذب، واموالها محروبة، واعلاقها مسلوبة... وهي المتصدية العنون، والجامحة الحرون، والمائقة الخؤون والجحود الكنود، والعنود الصدود، والحيود الميود، حالها إلى انتقال، ووطأتها زلزال، وعزها ذل، وجدها هزل، وعلوها سفل، دار حرب وسلب ونهب، وعطب»([2]).

وتلازم النظرة الغاضبة المقرونة بالحذر والحيطة جل مأثورات علي عليه السلام في الدنيا، لأنها كما يراها «مثل الحية، لين مسها، قاتل سمها»([3])، لذلك كان يتمنى لو استطاع التمكن منها، لخلص الإنسانية من أذاها، ولفك الناس من ربقة ذلها، ولجنبهم الوقوع في حبائلها، وتتجلى أمنيته تلك في قوله «والله لو كنت شخصا مرئياً وقالباً حسياً، لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم بالأماني، وأمم القتهم في المهاوي، وملوك اسملتهم إلى التلف»([4]).

فكما يبدو في النهج فإن عليا عليه السلام قد قبر داخل نفسه كل شهوة دنيوية، مهما تناهت في الاغراء، فلقد تصورها في شكل فتاة في ريعان الشباب، تلاحقه عارضة نفسها عليه، محاولة إيقاعه في حبائلها بشتى الوسائل المغرية، ولكنه حسم أمره معها حين خاطبها قائلا «يا دنيا، يا دنيا، اليك عني، أبيَ تعرضت؟ أم إليّ تشوقت، لا حان حينك، هيهات، غري غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها»([5]) فهو في طلاقه للدنيا، ومحاولته اقامة حدود الله عليها، من المثالية بحيث يريد أن يقيم كل أود في الحياة من حوله مع وضعه في الاعتبار أن الإنسان العادي لا يمكنه الزهد في الدنيا والنأي بنفسه عن لذاتها لأنه يرى ان «الناس ابناء الدنيا ولا يلام الرجل على حب امه»([6]) فلو استطاع الإنسان نبذ الدنيا التي خلق من أديمها، لأمكنه الاستغناء عن حبه لأمه التي أنجبته ورضع لبنها وذاك مستحيل، وقد تبدو الفكرة متناقضة، خاصة حين نرى عليا عليه السلام يمنح الدنيا أوصافا ناصعة بهية، تتناقض تماما مع ما أطلقه عليها من أوصاف تزهيدية لا تقيم لها وزنا ولا تجعل له أية قيمة، فمن أوصافه المشرقة للدنيا قوله «الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد احباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله»([7])، لكن بتأملنا في النصوص التي أثرت عن علي عليه السلام في الدنيا مجتمعة، نعتقد أنه لا تناقض في أفكارها، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار، أن الدنيا التي يمدحها علي عليه السلام ويذمها هي دنيا الإنسان، أي زمن بقائه من يوم ولادته حتى يوم وفاته، وان المطلوب منه في دنياه الزمانية تلك ان يفهمها على حقيقتها، بفهم دوره فيها، والفهم هنا يعني، تحكيم العقل، وكبح جماح الشهوة، دون مغالبة أو تسلط، أو جشع، أو حشد، ويمكن ملاحظة ذلك في فكر علي عليه السلام ، بالعودة إلى النص السابق، والتأمل في الايجابيات التي اسبغها على الدنيا بقوله عنها انها (دار صدق، عافية، دار غنى، دار موعظة) لمن اعمل فكره بصدق في كل تلك الصفات وفهمها فهما حقيقيا، بنظرة محايدة بعيدة عن كل اغراء يحيلها حية سامة أو حيوان جموح، فتطليق الدنيا بالنسبة إليه شخصيا عزوف عنها وعن ملذاتها، أما بالنسبة إلى غيره من عامة الناس فيعني فهمها على حقيقتها والأخذ منها بما يضفي على النفس السعادة والطمأنينة، بجانب راحة الضمير وعمل حساب النفس بالتوازن بين المادة والروح طبقا لقوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ الله الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ﴾([8]). وهو ما يمكن استخلاصه من فهمنا للدنيا كما وردت في فكر علي عليه السلام ، الذي يرى ان الذين فهموا الدنيا فهما عميقا هم أولئك الذين «ذهبوا بعاجل الدنيا، وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت وأكلوها بأفضل ما اكلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون... ثم انقلبوا منها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح»([9]). تلك هي الدنيا في فكر علي عليه السلام ليس في نظرته إليها ثمة تشاؤم ولا هروب، شريطة أن ننظر إليها من خلال ما قاله فيها مجتمعا دون تجزئة تحيل البنية الفكرية إلى عناصر متفككة لا تمثل الحقيقة إلا من إحدى جوانبها، مما ينأى بها، عن التكامل والوضوح، ومن خلال ذلك الفهم الواضح للدنيا كما بدت في فكر علي عليه السلام يمكننا التعرض إلى ما ورد عنده من أفكار زهدية كانت أم صوفية(([10]).

الهوامش:
([1]) خطب ـ 110 فقرة ـ 1.
([2]) خطب ـ 239ـ فقرة ـ3، وخالب ـ خادع، ومحروبة ـ منهوبة، واعلاقها ـ مقتنياتها، والمتصدية ـ المرأة التي تتعرض للرجال لإغرائهم، والعنون ـ بفتح فضم ـ صيغة مبالغة من الفعل عنّ أي اعتراض، والعنون الدائمة الاعتراض، والجامحة ـ الدابة الصعبة التي يستعصي ركوبها، والحرون ـ الدابة التي إذا طلبت منها السير وقفت معاندة، والمائقة ـ الكاذبة ـ والخؤون ـ المبالغة في خيانتها، والجحود ـ المنكرة للنعمة، والكنود الكافرة بالنعمة، والعنود ـ الدائمة العناد، والميود ـ مبالغة من ماد، الدائمة الاضطراب التي لا تستقر على حال.
([3]) رسائل ـ68.
([4]) رسائل ـ45ـ فقرة4.
([5]) حكم ـ75.
([6]) حكم ـ311.
([7]) حكم ـ 129.
([8]) القصص/77.
([9]) رسائل ـ27ـ الفقرة 2.
([10]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 569-572.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3333 Seconds