الباحث: محمد حاكم الكريطي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للناس أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد:
قال (عليه السلام) : ((ما أكثر العبر وأقل المعتبر))[1].
كثيرة هي العبر وقليل من الناس المعتبر, فالعبرة شاخصة أمام الذين يريدون أن يأخذوا بها, أو المعرضين عنها, فإن أعظم العبر هو الموت, وهذه العبرة بقدر أهميتها كان لها الحضور الدائم والملازم للناس, وهذا من خلال توديع الناس بعضهم بعضا, فأين السابقين وأين من كان قبلهم الى أن نصل الى آدم
(عليه السلام), فما ذهب عليه الأولون سيأتي على الآخرين , ولم يكن مصيرهم من حيث ملاقاة الموت مختلفا عن مصير من سبقهم, فهذه عبرة ما أعظمها, فهي دائمة الحضور بين أنظار الناس, وكفى بها من عبرة لمن أراد أن يتدبر ويعتبر, أما من أراد أن يأخذ العبرة من الذين اتبعوا طريق الله تبارك وتعالى, لا شك سنلاحظ من الأمارات ما يدل على ذلك, من المكانة التي وعدهم الله تعالى بها ومن حسن الخاتمة التي هي إشارة بينة إلى حسن المستقر بين يدي العزيز المقتدر, والعكس من ذلك لا يختلف في دقته مع هذا الأمر، فالذين ابتعدوا عمّا جاء به الإسلام, أو ما شرّعته السماء لا شك أنهم تائهون في الدنيا خائرون قبل ملاقاتهم الله تبارك وتعالى, فذلك عبرة لمن أراد أن يحيد بنفسه عن التشريع الإسلامي والسير على هدى الله تبارك وتعالى, والإشارات والعبر تتراءى للذين يريدون أن يعتبروا, وقد وصفهم الإمام (عليه السلام) بالقلة كما وصف العبرة التي أعرضوا عنها بالكثرة, لأن ما من شيء في الأرض إلّا وفيه عبرة وهي إشارة ودلالة مستقبلية حتمية, فلا يمكن أن تمر مر السحاب على ذهن البارع في رؤيته والحكيم في تدبره, إلى زوال الدنيا وزينتها المنقطعة كما انقطعت عن الماضين آثارها, وسُلموا الى رهائن القبور, غير أننا نلاحظ كيف أن القرآن الكريم أكد على أخذ العبرة من خلال قوله تعالى: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ))[2], والآية المباركة من سورة يوسف تشير إلى أخذ العبرة من تلك القصص التي ذكرها الله تبارك وتعالى عن يوسف (عليه السلام) واخوته, وقد حصر الله تبارك وتعالى أخذ العبرة من أولي الالباب بمعنى أصحاب العقول التي يمكن أن تعتبر من خلال ما وهبها الله من تفكر, إذن فإن العبرة ليست بالأمر اليسير الذي يمكن للجميع أن يتناوله فقد اختص بأهل الحكمة والدراية من الناس الذين كان لتسديد الله في حياتهم دور بارز, فهناك من الناس الكثيرين تمر عليهم العبر ولم يأخذوا شيئا منها, والقرآن الكريم جمع العبر وفصل اشكالها في عدد من الآيات المباركة, فضلا عمّا ذكرناه من سورة يوسف, ومنها قوله تعالى: ((يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَار))[3], وقوله تعالى : ((وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ))[4]، وهناك كثير من الآيات الأخرى التي تعرضت بالذكر إلى العبرة, وما ذلك التكرار إلا للأهمية الكبيرة التي يحثنا الله تعالى عليها من أجل أخذ العبرة, وذلك جُنة من عذاب الله, فمن أراد أن يعد العدة إلى الآخرة فعليه أن يتدبر في أحوال السابقين وذلك التدبر هو المدخل الحقيقي لأخذ العبرة, وإذا رجعنا إلى قوله (عليه السلام) (ما أكثر العبر وأقل المعتبر), نلاحظ فيها جرساً لفظياً يحيل العقل إحالة شبه قسرية إلى أخذ العبرة ذلك من خلال الالتفات إلى ما يحيط بالإنسان من حوادث الزمن التي تتحرك بين الأحياء لأن تكون عبرة لهم, وإن النفس هي الحائل الحقيقي في عدم أخذ العبرة من تلك الأشياء, فلابد من معالجة النفس ومغالبة الهوى للنهوض بالذات والخروج بها من الوحل النفسي الذي مازال يحدث اربكا كبيرا وفجوة توتر بين الأنا والنفس, وهذه من الأسباب التي تقف عائقا أمام قبول العبر التي استقرت أمام العين لكثرتها وتواترها بين الناس, فأخذ العبرة هي منجاة للنفس ومستقرها الآمن يوم القيامة, وإلا إتباع الطرف الآخر وهو الركون الى الدنيا وعدم الاعتبار منها ذلك ما يورث الحسرة والندامة يوم القيامة, لذا فالعبرة التي يتحدث عنها الإمام (عليه السلام) ويحث عليها هي دائمة الحدوث والوجود بين الناس وما على الإنسان إلا الاتعاظ منها درءًا للعذاب وفكًّا للرقاب من النار التي تاخموها من حيث الركون إلى النفس.
الهوامش:
1- نهج البلاغة : 539
[2] - سورة يوسف : 111
[3] - سورة النور : 44
[4] - سورة النحل : 66