بقلم: السيد نبيل الحسني.
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
فإن مما أثير مؤخرًا من الشبهات حول عاشوراء: القول بأن وصية الإمام الحسين (عليه السلام) التي كتبها لأخيه محمد بن الحنفية لم تكن معروفة في القرنين الأول والثاني للهجرة النبويّة، وذلك في محاولة للتشكيك بالوصية وما تضمنته من بيان للأسس التي ارتكز عليها خروج الإمام الحسين (عليه السلام) لطلب الإصلاح في أمة جده (صلى الله عليه وآله).
وهو قول لم يستند إلى دراية ومعرفة بتاريخ المسلمين ولا بالحركة العلميّة لتدوين العلوم والمعارف الإسلاميّة، وذلك أنّ الرجوع إلى تاريخ نشأة علم السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، والحديث النبوي، وغيرها من العلوم الإسلامية، وحفظها عِبْر التدوين أو الإسناد، يبدد القول بأن وصية الإمام الحسين (عليه السلام) لم تكن معروفة أو مروية في القرن الأول والثاني للهجرة النبويّة وأن أوّل ظهور لها كان في القرن الثالث.
إلا الرجوع إلى قول الحافظ الذهبي في تذكرته يرد هذا المدعى والتشكيك في الوصية المباركة ويظهر العلة في تأخر ظهورها.
قال الذهبي في أحداث سنة ثلاث وأربعين ومائة:
«وفي هذا العصر شرع علماء الإسلام في تدوين الحديث والفقه والتفسير، فصنف ابن جريج التصانيف بمكة، وصنف سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، وصنف الأوزاعي بالشام، وصنف مالك الموطأ بالمدينة، وصنف ابن إسحاق المغازي، وصنف معمر باليمن، وصنف أبو حنيفة وغيره الفقه والرأي بالكوفة، وصنف سفيان الثوري كتاب الجامع، ثم بعد يسير صنف هشيم كتبه، وصنف الليث بمصر وابن لهيعة ثم ابن المبارك وأبو يوسف وابن وهب. وكثر تدوين العلم وتبويبه، ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس. وقبل هذا العصر كان سائر الأئمة يتكلمون عن حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة؛ فسهل ولله الحمد تناول العلم، وأخذ الحفظ يتناقص، فلله الأمر كله» ([1]).
ولم يشر الذهبي إلى التعريف بهذه «الصحف الصحيحة غير المرتبة» عند من كانت؟! ولاسيما أن الشيخين قد جمعا السُنّة وأحرقاها، ومنعا تدوين الحديث النبوي الشريف والسيرة، وما زال الناس على هذا المنهج في القرن الأول والثاني حتى أكرههم حكام بني أمية على الرواية والكتابة، ومما يدل عليه:
ما روي عن ابن شهاب الزهري، أنه قال: (كنا نكره كتاب العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا ألا نمنعه أحدًا من المسلمين)([2]).
والظاهر من قول الزهري أن السبب في كتابة العلم هو إكراه الأمراء لحملة الأحاديث في تدوينها، وحيث أن الأمراء لا تتحرك من وحي الحفاظ على سُنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيرته ولاسيما ما اختص بعترته أهل بيته (عليهم السلام) بقدر ما تندفع للحفاظ على كرسي الحكم، فقد بدا أن الغرض من إكراه الزهري وجماعته على كتابة الأحاديث، هو: (تمكين الحكام الأمويين بتقديم مادة عقيدية وسيلة تخدم مصالح أسرتهم الحاكمة) وهو الأمر الذي فهمه جولدتسهير[3] من قول الزهري([4]).
وعليه: «فإذا أراد الباحث تقدير قيمة المواد المتعلقة بالقرنين الأول والثاني الهجريين في المصادر التي وصلت إلينا اعتمادًا على الإسناد، فعليه أن يتحرر من الآراء القائلة بأن هذه الأخبار ظلت تتداول شفاها على مدى مائة وخمسين عامًا، أو أن المحدثين قد اخترعوا الإسناد في نهاية القرن الثاني للهجرة أو في القرن الثالث للهجرة (وأضافوه) إلى الأخبار فدونت به بعد ذلك.
وعليه أن ينظر إلى هذه المؤلفات بوصفها كتبًا مجموعة من مصادر مدونة تعود بدورها إلى مصادر مدونة أقدم، فالأسماء الواردة في الأسانيد تعطي -في مجموعها أو معظمها- أسماء المؤلفين أو أسماء عدد من الرواة والمؤلف»([5]).
وقد تناول الباحثون عبارات الطبري التي تشير إلى نقله روايات من مصادر متعددة أشار إليها بألفاظ مختلفة كقوله:
1- (حُدّثتُ عن هشام بن محمد بن أبي مخنف، قال: حدّثني الصقب بن زهير)([6]).
وهو بهذا يكون قد نقل من كتاب هشام بن محمد الكلبي.
2- (حُدّثتُ عن الواقدي، قال: سألت ابن أبي سيرة)([7]).
وهو بهذا يكون قد نقل عن كتاب مغازي الواقدي.
3- (حُدّثتُ عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع)([8]).
وبهذا الإسناد يكون قد نقل عن كتاب تفسير القرآن للربيع بن أنس البكرى (المتوفي 139هـ/756م)([9]).
وهذه الشواهد تدل على وجود كتب عند الصحابة، وأن مجموعة منها قد حفظت ولم يستجب أصحابها إلى دعوة الشيخين في إحراقها أو محوها؛ ولاسيما الكتب التي دونها طلاب مدرسة العترة النبوية الطاهرة (عليهم السلام).
إلا أن الحرب التي كانت تشن ضد هذه المدرسة منذ حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) -كما أظهرته بضعة النبي الأعظم فاطمة (عليها السلام) في السنن التاريخية[10]- وتعاظم هذه الحرب بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومًا بعد يوم، جعل كثيرًا من الباحثين في حالة فراغ من الإحاطة بنشأة التدوين لمختلف العلوم، وتطوير هذه الظاهرة.
بل قد انعكس ذلك سلبا عند كثير من الباحثين المستشرقين، فذهبوا إلى الاعتقاد بتخلف العرب عن تدوين علومهم، وأنهم كانوا يعتمدون على النقل الشفوي؛ مما يجعل الحدث التاريخي أو الأثر أو الحديث في معرض الخطأ والتداخل ونسب ما ليس من الشريعة إليها، وما أكثر الشواهد على ذلك[11]!.
ومن ثمَّ فأن القول بعدم ظهور وصية الإمام الحسين (عليه السلام) في القرن والأوّل والثاني للهجرة النبوية، وأن أوّل من رواها ابن أعثم الكوفي لا يقدح في الوصية ولا يصلح للتشكيك بها، بل هو مردود على قائله وكاشف عن عدم درايته، ولاسيما أن المؤرخين كالواقدي في مغازيه وابن سعد في طبقاته، والبلاذري في أنسابه، والطبري في تاريخه وغيرهم قد رووا ما لم يروه غيرهم، وحالهم في ذاك حال ابن أعثم الكوفي الذي أنفرد برواية أحداث لم يروها غيره.
والحمد لله على فضله وفضل رسوله (صلى الله عليه وآله)[12].
الهوامش:
([1]) تذكرة الحفاظ، الذهبي: ج 1، ص 151 و229؛ تاريخ الإسلام، الذهبي: ج9 ص13 ، النجوم الزاهرة ، ابن تغري بردي: ج 1، ص 351.
([2]) الطبقات الكبرى ، ابن سعد: ج 2، ص 389. جامع بيان العلم ، ابن عبد البر: ج 1، ص76. المصنف ، الصنعاني: ج 11، ص 258.
[3] مستشرق يهودي مجري عُرف بنقده للإسلام وبجدية كتاباته، ومن محرري دائرة المعارف الإسلامية، ولقد اشتهر بغزارة إنتاجه عن الإسلام حتى عد من أهم المستشرقين لكثرة إسهامه وتحقيقاته عن الإسلام ورجاله، متأثراً في كل ذلك ربما بيهوديته. وهو أبرز من قام بمحاولة واسعة وشاملة لنسف السيرة. «ينظر: ويكيبيديا».
([4]) تاريخ التراث العربي ، فؤاد سزكين: ج 2، ص 7.
([5]) تاريخ التراث العربي ، فؤاد سزكين: ج 2، ص 8.
([6]) تاريخ الطبري: ج 1، ص 1810.
([7]) تاريخ الطبري: ج 1، ص 1812.
([8]) تاريخ الطبري: ج 1، ص 315.
([9]) تاريخ التراث العربي: ج 2، ص 10.
[10] لمزيد من الاطلاع، ينظر : حركة التاريخ وسننّه عند علي وفاطمة(عليهما السلام) ، نبيل الحسني ، اصدار قسم الشؤون الفكرية العتبة الحسينية، ط1 مؤسسة الأعلمي ـ بيروت
[11] لمزيد من الاطلاع ، ينظر: الشيعة والسيرة النبوية بين التدوين والاضطهاد، نبيل الحسني، إصدار قسم الشؤون الفكرية – العتبة الحسينية، ط1 مؤسسة الأعلمي- بيروت.
[12] لمزيد من الاطلاع، ينظر: طلب الإصلاح بين القرآن وعاشوراء ونهج البلاغة، دراسة في ضوء تنمية القيم الإنسانية وبناء الذات، قراءة في المرتكزات المفاهيمية لخروج الإمام الحسين (عليه السلام) واشكالية حديث «خير القرون قرني» و «عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين»، السيد نبيل الحسني، إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة، العتبة الحسينة المقدسة، ط1 دار الوارث – 2025م 1446هـ / كربلاء