د. عباس علي الفحام
جاء في الأثر الروائي أن الإمام عليا (عليه السلام) سأل أخاه عقيلا العارف بالأنساب أن يجد له امرأة ولدتها الفحول من العرب، لتلدَ له ولدا زكيا شجاعا ينصر ولده الحسين (عليه السلام) في كربلاء، وهكذا تزوج بفاطمة الكلابية المكناة بأم البنين، من أسرة موسومة بالنجدة والشهامة، فأبوها حزام بن خالد بن ربيعة، وربيعة هذا هو أخو لبيد الشاعر ابن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
وملأت أم البنين مكان فاطمة الزهراء (عليها السلام) ـ الذي لا يُملأ ـ في رعاية الحسنين عليهما السلام وخدمتهما، حتى أنها قدمتهما على أولادها الأربعة الذين هم ملء العين في الكمال والأدب، فاستحقت رضوان الله عليها من بعد أن تكون محل إكبار في البيت العلوي السامق.
والعباس بن أمير المؤمنين (عليه السلام) أكبر ولد أم البنين الأربعة، ولد في الرابع من شعبان سنة 26 للهجرة، وسماه أمير المؤمنين (عليه السلام) على اسم عمه العباس وتكنى بكنيته أبي الفضل، حبا وانتماء لهذه الدوحة الهاشمية، وتلقى من أبيه رعاية عالية لما توسم فيه من فداء وشجاعة، فقد كان يوسعه تقبيلا وحنوا، وجاء في الأثر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أجلسه في حجره فشمر العباس عن ساعديه، فجعل الإمام يقبلهما وهو غارق في البكاء، فبهرت أم البنين وراحت تقول للإمام: ما يبكيك؟، فأجابها بنبرات حزينة: نظرت إلى هذين الكفين وتذكرت ما يجري عليهما، فسألته أم البنين بلهفة عما يجري عليهما، فقال: أنهما يقطعان من الزند فداء للدين ولأخيه الحسين.
نشأ العباس في ظل أبيه (عليه السلام) يستقي منه قيم النبل والإباء، ولازم أخويه ولاسيما الحسين (عليه السلام) كما لازم من قبل أبوهم علي (عليه السلام) ابن عمه الرسول (صلى الله عليه وآله)، فجمع العباس (عليه السلام) صفات آبائه عليهم السلام من جمال الطلعة وثبات الموقف وحسن العاقبة، فلبهائه وإشراقة محياه لقب بقمر بني هاشم، وهي صفة موروثة من الجد الأعلى هاشم فعبد المطلب فعبد الله، وزادها بهاء جمال الرسول (صلى الله عليه وآله) وابن عمه علي (عليه السلام)، قال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتله ((وكان العباس رجلا وسيما جميلا يركب الفرس المُطهّم ورجلاه تخُطّانِ في الأرض وكان يقال له قمر بني هاشم)).
ولقوة ثباته وإقدامه في يوم الطف مدافعا عن أخيه الحسين (عليه السلام) أصبح مثلا في البطولة والشجاعة، إذ كان حامل لوائه يومذاك، ولاسيما حين كشف كتائب جيش ابن سعد عن مشرعة الماء، والشجاعة صفة أصيلة في الأسرة العلوية تُذكّر بقول أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) مفتخرا في الذود عن وجه الرسول (صلى الله عليه وآله) في مواقف الحروب: ((ولقد واسيته بنفسي في المواقف التي تنكص فيها الأبطال وتتأخر فيها الأقدام، نجدة أكرمني الله بها)).
وأما حسن العاقبة في الشهادة والفداء وطريقة فقدانه كفيه فهي من مفاخر هذه الأسرة الربانية، ففي استشهاد جعفر بن أبي طالب في مؤتة حين قطعت يداه قال الرسول (صلى الله عليه وآله): لقد أبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الجنة، ولذلك سمي الطيار، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) مذكرا بخصوصية هذه الأسرة: ((ألا ترى غير مخبر لك ولكن بنعمة الله أحدث أن قوما استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين ولكل فضل، حتى إذا استشهد شهيدنا قيل سيد الشهداء، وخصه رسول الله صلى الله عليه وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه، أولا ترى أن قوما قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل حتى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل الطيّار في الجنة وذو الجناحين))، وسيد الشهداء في وقته الذي يشير إليه أمير المؤمنين هو حمزة بن عبد المطلب، وأما الطيار فهو جعفر أخوه.
وزادها العباس (عليه السلام) رفعة وسموا يوم العاشر من محرم عام 61 للهجرة، فحين استشهد في كربلاء مع أخيه سيد الشهداء كان بعمر الربيع (34) عاما، نقل في أمالي الشيخ الصدوق قوله ((نظر سيد العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) إلى عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فاستعبر، ثم قال: ما من يوم أشد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من يوم أحد، قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب، ثم قال (عليه السلام): ولا يوم كيوم الحسين (عليه السلام) ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل، يزعمون أنهم من هذه الأمة كل يتقرب إلى الله عز وجل بدمه، وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون، حتى قتلوه بغيا وظلما وعدوانا، ثم قال (عليه السلام): رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه، فأبدله الله عز وجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة)).
وفي يوم استشهاده (عليه السلام) قال الشاعر قديما:
أحقُّ الناسِ أن يُبكى عليه فتًى أبكى الحسينَ بكربلاءِ
أخوهُ وابنُ والدهِ عليٍّ أبو الفضلِ المُضرّجِ بالدماءِ
ومَنْ واساهُ لا يثنيه شيءٌ وجادلَهُ على عطشٍ بماءِ
وفيه قال الكميت بن زيد الأسدي:
وأبو الفضلِ إنّ ذكرهم الحلـــــــــــو شفاءُ النفوسِ من أسقامِ
قتل الأدعياءُ إذ قتلــــوه أكرمَ الشاربين صوبَ الغمامِ
فسلام عليه يوم ولد وتربّى في أحضان أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) ويوم استشهد بطلا مع أخيه الحسين (عليه السلام).