الباحث: عماد طالب الخزاعي
الْحَمْدُ للهِ وَإنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ، وَالْحَدَثِ الْجَلِيلِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاّ اللهُ، لَيْسَ مَعَهُ إِلهٌ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ(صلى الله عليه وآله).
أما بعد:
فكلما تلبدت الحياة بقطع من الليل مظلما، تسطع بين الحين والآخر قبسات نور اصلاحية تعيد الشاذ الى طريقه المستقيم ، وتعطي للحياة توازنها بعد ما تغلبت كفة الظلم على العدل، وجار الظالم فيها على الفقير، والسبب في هذه الاضطرابات مرده الى استيلاء الشخص غير المناسب على دكة الحكم، أو تسنم غير العالم أو العارف مكان العارف العالم، أو وصول ذوي الاطماع الدنيوية الى رئاسة الدولة والسيطرة على فروعها، وابعاد الذين يؤثرون المصلحة العامة على الخاصة ومحاربتهم.
ولهف نفسي كيف اذا اتخذ هذا الظلم طابعا دينيا، فإنه حينها يهدم بمعولين ، الأول الجور على المسلمين الذين يعرفون شرع الله فيرون سلوكيات الحاكم الظالم شاذة اذا ما قيست بمقياس الشريعة فيسلك عندها الحاكم سلوك القسر والتعذيب لردع أي اعتراض يمكن ان يثار منهم تجاه ظلمه ونهب خيرات المسلمين ومحاربة أولي أمر المسلمين ، والآخر: تشويه الدين الاسلامي بعدما قدمه بقراءة تخالف مبادئه الحقة ومنها العدل والتسامح، ورعاية حقوق المسلمين، وعدم التفريق بينهم...الخ، وكل هذه السلوكيات انما تمزق الاسلام وتنفر الناس منه على مر الايام ولعل هذا أحد اهدافهم آنذاك.
ولنقف عند نبراس الثورات واشرفها، تلك التي برز فيها سبط الرسول (صلى الله عليه وآله ) لمقارعة الظلم والجور، إذ كان المسلمون في عاصمتي الاسلام مكة والمدينة وعاصمتي الخلافة الكوفة والشام يرون التمسك بالدين في طاعة الخليفة مهما كانت صفاته وفي كل ما يأمر ، ويرون في الخروج عليه شقا لعصا المسلمين ومروقا من الدين ، هذه كانت حالتهم وفيهم بقية ممن رأى رسول الله وسمع حديثه وفيهم التابعون بإحسان وفيهم عِليَة المسلمين ، وبالقياس إلى هؤلاء ، كيف كانت حال المسلمين في سائر الحواضر الاسلامية وبلاده النائية مثل من كان في أقاصي أفريقيا وإيران والجزيرة العربية ممن لم يروا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولم يصاحبوا أهل بيته أو خريجي مدرسته ، أولئك المسلمين الذين كانوا يعرفون الاسلام من خلال ما يرونه في عاصمة الخلافة وبلاط الخليفة خاصة ويمثل الاسلام في عرفهم الخليفة وسيرته ! وما أدراك ما الخليفة وما سيرته ! الخليفة الذي لا يردعه رادع من دين عن نيل ما يشتهيه ! الخليفة الذي يشرب الخمر ، ويترك الصلاة ! ويضرب بالطنابير ويعزف عنده القيان ويلعب بالكلاب ويسمر عنده الخراب والفتيان . الخليفة الذي ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات .الخليفة الذي يأمر بقتل سبط الرسول ويسبي بناته ويبيح حرم الرسول ويرمي الكعبة بالمنجنيق([1])، وينشد :
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل([2]).
هذا هو الاسلام الذي كانوا يجدونه لدى خليفة الله وخليفة رسوله، وكان يقال للمسلمين في كل مكان ان التمسك بالدين في طاعة هذا الخليفة .
وكان الانسان الوحيد الذي يستطيع أن ينهض بعبء هذا التغيير هو الإمام الحسين (عليه السلام ) من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومقامه منه ، ولما ورد في حقه من أحاديث، وكان على هذا الانسان مع تلك الميزات أن يختار يومئذ أحد أمرين لا ثالث لهما:
إما أن يثور ضد هذا الحاكم الظالم ويكشف الستار عن سلوكياته المشينة للإسلام، أو أن يبايع يزيد ويحظى بعيش رغيد في الدنيا مع بقاء حب المسلمين واحترام كافة الناس إياه، وهو يعلم أن بيعته(عليه السلام) تمنح يزيد:
أولا - اقرار منه ليزيد على كل فجوره وكفره وتظاهره بهما !.
وثانيا - اقرار منه للمسلمين في ما يعتقدونه في أمثال يزيد ممن تربع على دست
الخلافة بالبيعة بأنهم الممثلون الشرعيون لله ورسوله وأن طاعتهم واجبة على كل حال وفي كل ما يأمرون ! وفي الاقرارين قضاء على شريعة جده سيد المرسلين.
اذا فهو الانسان الوحيد الذي أنيطت به تلك المهمة الخطيرة مدى الدهر وعليه أن يختار أحد أمرين اما أن يبايع أو ينكر على يزيد أعماله وعلى المسلمين كافة اقرارهم اعمال يزيد ، وبذلك يغير ما كانوا عليه ويمكن الأئمة من بعده أن يقوموا بإحياء ما اندرس من شريعة جده وهذا ما اختاره الإمام الحسين (عليه السلام) واستهدفه في قيامه واتخذه شعارا لنفسه وسلك سبيلا يوصله إليه انطلاقا من مقولته التي عُدّت شعارا لنهضته : (( بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف يا بن الحنفية أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، جاء بالحق من عند الحق ، وأن الجنة والنار حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب عليه السلام فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين))([3]).
جلية هي المفاهيم الاصلاحية والاهداف السامية التي صرح بها الامام الحسين( عليه السلام) في نصه الشريف هذا، ويمكن قراءتها بحسب الاتي:
أولا: مقصدية ذكر اساسيات الدين: يبينها قوله (عليه السلام): (أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، جاء بالحق من عند الحق ، وأن الجنة والنار حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور)، فذكر عليه السلام الشهادتين، والايمان باليوم الاخر، والايمان بالبعث، ولعل فيها رسالة تحمل مضمون الرد على اتهامات يزيد وجلاوزته إذ تقوَّلوا بأن الامام الحسين عليه السلام قد خرج على الخليفة- بحسب قولهم- وانه بخروجه هذا يشق عصا الاسلام، وغيرها من الاقاويل، وكذلك يوحي هذا المقطع من النص بالدستور الذي يسير عليه الامام الحسين (عليه السلام) وهو الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بغية الاصلاح في أمة جده النبي محمد ( صلى الله عليه وآله)، فقال ( عليه السلام) : (وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله)، وكان مؤدى هذا الشعار صحة أمر الإمامة وبطلان أمر الخلافة القائمة([4]).
ثانيا: أسقط الإمام الحسين في هذه الوصية ذكر الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان
ومعاوية وذكر سيرتهم ، وصرح بأنه يريد أن يسير بسيرة جده وأبيه . وأما الخلفاء فقد جاؤوا إلى الحكم استنادا إلى بيعة المسلمين إياهم كيف ما كانت البيعة وبما تحمله من قسر وتمحل، ثم حكمهم المسلمين على وفق اجتهاداتهم الخاصة في الاحكام الاسلامية فأصبحت ((فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا ، ويَخْشُنُ مَسُّهَا ويَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا والِاعْتِذَارُ مِنْهَا))([5]).
وأما سيرة جده وأبيه (عليهم السلام) فتتلخص بالاتي: حملهما الاسلام إلى الناس ودعوتهما الناس إلى العمل به ، ووقوفهما عند أحكام الاسلام ، كان هذا سيرتهما في جميع الأحوال ، سواء أكانا حاكمين مثل عهد الرسول(صلى الله عليه وآله) في المدينة والإمام علي(عليه السلام) بعد مقتل عثمان ، أو غير حاكمين مثل حالهما( عليهما السلام) قبل ذلك ، وسيرتهما في كلتا الحالين حمل الاسلام إلى الأمة ، أحدهما بلغه عن الله والاخر عن رسول وفي كلتا الحالين دعوا إلى الاسلام وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر([6]) .
والإمام الحسين ( عليه السلام ) يريد أن يسير بسيرتهما كذلك ، ولا يريد أن يسير بسيرة الخلفاء ، فمن قبله بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن رد عليه ذلك صبر حتى يقضي الله بينه وبين عصبة الخلافة الحاكمة بالحق.
ودعا الأمة إلى القيام المسلح في وجه الخلافة ، وتغيير ما هم عليه ، وطلب منهم البيعة على ذلك ، وليس على أن يعينوه ليلي الخلافة ، ولم يمن الامام أحدا بذلك بتاتا ولم يذكره في خطاب ولم يكتبه في كتاب، وقد القى الامام الحسين (عليه السلام) الحجة على المسلمين وسلك مسلكا اعلاميا عالميا في نشر دعوته عندما حلَّ بمكة المكرمة في موسم الحج كما كان لخروجه وقع في نفوس المسلمين عندما ترك البيت ليلتقي برب البيت فاشعل الترقب وبثّ حرارة الثورة لتكون مثالا خالدا تحرك الاجيال لمواجهة الظلم والطغيان في احلك الظروف، ومضى في مسيرته( عليه السلام) مقدما الغالي والنفيس في سبيل الله واحياء لدينه الاسلام، فانتصرت دماءه على حدِّ السيوف واصبح مثالا يقتفى لدى الاحرار يتجدد خلودا بعد خلود، واصبحت اعداءه وصمت عار على صفحة التاريخ.
الهوامش:
[1] ينظر: معالم المدرستين، السيد مرتضى العسكري، مؤسسة النعمان للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت- لبنان، 1410- 19990: 3/ 300.
[2] ينظر: البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1408، هـ - 1988 م: 8/ 246.
[3] بحار الانوار، العلامة المجلسي (1111هـ)، تحقيق: محمد الباقر البهبودي، مؤسسة الوفاء، بيروت- لبنان، ط2، 1408هـ - 1983م: 44/ 330.
[4] ينظر: معالم المدرستين: 3/ 300، و الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: 12/ 481.
[5] نهج البلاغة، ما اختاره وجمعه الشريف الرضي من خطب الامام علي( عليه السلام)، تحقيق: صبحي الصالح، ط1، 1387هـ - 1967م: 48.
[6] ينظر: معالم المدرستين: 3/ 30.