من ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة الدلالة على الدواب عامّة (العَجْمَاء) قال عليه السلام ((الْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ الْعَجْمَاءَ ذَاتَ الْبَيَانِ))

مقالات وبحوث

من ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة الدلالة على الدواب عامّة (العَجْمَاء) قال عليه السلام ((الْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ الْعَجْمَاءَ ذَاتَ الْبَيَانِ))

92 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 29-08-2024

بقلم: د. حسام عدنان الياسري.

الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانع كل غنيمة وفضل، وكاشف عظيمة وأزل، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الاطهار.

وبعد:

العَجْمَاء

العَجْمَاء كُل دَابَّة أو بَهِيْمَة ([1]). قيل لها عَجْماء؛ لأنّها لا تتكلمّ ([2]). وقد استعمل أمير المؤمنين لفظة (العَجْمَاء) مرة واحدة في كلامه الوارد في نهج البلاغة ([3])، للدلالة على البَهِيمة أو الدَّابة التي لا تَنْطق ولا تتكلّم. وذلك في سياق كلامه عن فضل أهل البيت (عليهم السلام)، وعن منزلته بين القَوم. يقول (عليه السلام): ((بِنَا اهْتَدَيْتُمْ في الظَّلْمَاءِ، وَتَسَنَّمْتُمُ ([4]) ذُرْوَةَ ([5]) العلْيَاءَ ([6])، وبِنَا أنْفَجَرْتُم([7]) عَنِ السِّرَارِ([8])، وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الوَاعِيَةَ([9])... اليَوْمَ أنْطِقُ لَكُمُ العَجْمَاءَ ذاتَ البَيَان! عَزَبَ ([10]) رَأْيُ امْرِىء تَخَلَّفَ عَنّي...))([11]). وهذه الخُطْبة من أفصح كلام الإمام كما يقول السيد الشريف الرضي ([12]). وقد أراد (عليه السلام) بـ (العَجْمَاء) -هنا - الحُجَّة البَيّنَه التي لم يفهموها أو يعوها، لأنهم لم يسمعوا نداءه لهم، ولم يَمْتَثلُوا لأمْرِه، ولهذا عَبّر (عليه السلام) عن ندائه ودعوته لهم بالصُّراخ على الميِّت الذي لا يسمع واعيته والنّدبة عليه؛ فليس لهؤلاء سمع ولا فَهْم. وقد كنى بـ(الواعية) عن نفسه، لأنّه صاحَ فيهم بالمواعظ الحسنة فلم يقبلوا. ولم يفهموا لها بيان ([13]). أما قوله ((اليوم أنْطِقُ لكم العَجْمَاءَ ذاتَ البَيانِ)). (فالعَجْمَاء) في اللغة البَهيْمَة والدَّابّةُ. وإنما سُمِّيَت بذلك لأنّها لا تتكلم. كما يذكر اللغويون ([14]). ويبدو أنّ المعنى بهذهِ الدلالة لا يناسب سياق النص، فيمكن أنْ تكون مفردة (العَجْمَاء) دالة على الحُجَّة والبَيَان الذي أراد الإمام إظهاره لهؤلاء القوم الذين يخاطبهم، فكأنّ الحُجّة بمنزلة الدَّابة العَجْمَاء لدى المخاطبين الذين لا يَفْقَهُونَ من كلامه شيئاً. فلهذا يُحتملُ أنّه استعار مفردة (العَجْمَاء) التي تدل على الدابّة أو البهيمة التي لا تتكلّم في هذا المقام؛ لِيظْهِر أنّه سَيَفْتَحَ لهم مغاليق البراهين والحجج الدّامغة، ويَضع أمامهم الأدلة غابت عن فَهْمهم وإدراكَهم؛ فَتَصَوَّروهم عَجْماء لا سبيل إلى فَهْمِ معاني رغائها وهَدْرِها. ولهذا وَصَفَ (عليه السلام) هذهِ (العَجْمَاء) بأنها (ذاتَ البَيَان). كأنه أراد القول إنها بَيّنَة واضحة، ولكنهم صُمّوا وعُمّوا عن فهمها وتّدّبُّرها.
علاوة على أنّ الإمام (عليه السلام) قد استعمل الفعل (أنْطِق) مَبْنيّاً للمجهول، إشارة إلى أنّه سيجعلها تُنبئ عما لم يفهموه، ويفتح ما فيها معاني، لأنها ليست مُبْهَمة إلاّ عليهم. وقد ذهب شُرّاح نهج البلاغة في بيان كلامه سالف الذكر؛ مذهبين يختلفان في التعبير ويتفقان المضمون؛ فالأول يرى أنّ المراد بـ (العَجْمَاء)، هي الرموز التي تضَمَّنتها هذهِ الخطبة، فإنها خفيّة غامِضة، وهي مع غموضها جَلِيّة لأولي الألباب، وتنطق كما الألسنة، عِبَر ومواعظ تُخبِر عن نفسها ([15]). أما المذهب الثاني، فيرى أن (العجماء) كناية عن الحال التي يُشَاهدها المخاطبون من العِبَرِ الواضحة، والمَثُلاَت التي حَلَّت بِقَومٍ فَسَقُوا عن أمرِ ربّهم، ونواهيه التي أمرهم بها الإمام (عليه السلام). مشبهاً إياها (بالعَجْمَاء) من الحيوان، على سبيل الاستعارة، ووصفها بـ (ذات البيان)؛ لأنه أنطقها معبراً بلسانه عما تقتضيه من مقال ([16]). وبهذا تكون مفردة (العَجْمَاء) مُتَّسعَة الدلالة؛ إذ انتقلت من الدلالة على الدابة أو البهيمة غير الناطقة، إلى الدلالة على الحجج والبراهين والدلائل. وثَمّة احتمال آخر تحتمله لفظة (العَجْمَاء)، فيمكن أنْ تكون صفَةً لموصوف محذوف تقديره ((الكلمات العَجْمَاء))، إشارة إلى ما تضمّنه كلامه (عليه السلام) في هذه الخطبة. وقد شبّه هذهِ الكلمات العجماء بالبهائم التي لا نُطْقَ لها([17]). وهذا الوجه قريب من المذهب الذي يرى أن (العَجْماء) هي الرموز والاشارات التي تضمنها كلامه (عليه السلام) في الخطبة المتقدمة)([18]).

الهوامش:
([1]) ينظر: العين (عجم): 1/237.
([2]) ينظر: غريب الحديث (أبو عبيد): 1/281، وتهذيب اللغة (عجم): 1/249.
([3]) ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: 293.
([4]) تَسَنَّمَ الشيء علاه. ينظر: لسان العرب (سنم): 12/307.
([5]) ذُرَى الشيْ أعلاه. ومنه تَذَرّى السَّنَام، إذا شرف وعلا. ينظر: أساس البلاغة (ذرى): 1/204.
([6]) العَلْيَاءُ رأسُ الجَبَل. ومنِ ثَمّ قيل لكل ما علا عَلْيَاء. ينظر: المحكم (علو): 2/353.
([7]) انَفَجَر الُّبْحُ، إذا طلع، وأفْجَرُوا، إذا دخلوا في الفَجْر. ينظر: المحكم (فجر): 7/395.
([8]) لبسَّرار الليلة التي يَسْتسِرُّ فيها القَمَرَ. ينظر: المحكم (سرر): 8/406.
([9]) أصل الواعِيَة من الوَعى، وهو الجَلَبَةَ، ثم دَلّت على الصُّرَاخ على المَيّت. ينظر: المحكم (وعي): 2/385.
([10]) عَزَبَ يَعْزُبُ، إذا ذهب، وغاب. ينظر: لسان العرب (عزب): 1/596.
([11]) نهج البلاغة: خ/4: 34، 35.
([12]) نفسه: 34.
([13]) ينظر: شرح نهج البلاغة (البحراني): 1/186.
([14]) ينظر: غريب الحديث (أبو عبيد): 1/281، وتهذيب اللغة (عجم): 1/249.
([15]) ينظر: شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): 1/202.
([16]) ينظر: شرح نهج البلاغة (البحراني): 1/188، والديباج الوضي: 1/232.
([17]) ينظر: شرح نهج البلاغة (البحراني): 1/188.
([18]) لمزيد من الاطلاع ينظر: ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة: للدكتور حسام عدنان رحيم الياسري، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 89-91.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2612 Seconds