القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة التأمل وتداعي الأفكار، والغيبيات، كما تبدو في فكر علي (عليه السلام): ج- القضايا الغيبية في فكر علي (عليه السلام)

مقالات وبحوث

القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة التأمل وتداعي الأفكار، والغيبيات، كما تبدو في فكر علي (عليه السلام): ج- القضايا الغيبية في فكر علي (عليه السلام)

872 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 12-10-2025

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:
إن الإيمان بالغيب هو من صلب العقيدة الإسلامية وهو من المسلمات التي لا تقبل الجدل كما في قوله تعالى في وصف المؤمنين حقيقة:

{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}([1]). والمقصود بالغيب، كما نفهمه هو كل ما لا يمكن للحواس معرفته، ولا للتجارب الوصول إلى غايته، «فالإيمان بالغيب هو الاعتقاد بموجود وراء المحسوس»([2]) وعلم الغيب بمعناه الماورائي من اختصاص الخالق سبحانه من دون غيره من المخلوقات مهما تسامت مكانتها وذلك بناء على قوله تعالى:
{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا الله}([3]) وعلى ذلك فإن جميع الرسل والانبياء لا يعلمون الغيب، وفي قوله تعالى لرسوله (صلّى الله عليه  وآله):
{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}([4]) ما يؤكد عدم احاطة الأنبياء بعلم الغيب، لأن فحوى الآية يؤكد عدم اطلاع الرسول صلّى الله عليه  وآله على خبايا المنافقين في المدينة من حوله رغم أنهم أقرب الناس إليه، كما ورد في القرآن ما مفاده ان قريشا قد طلبت من الرسول صلّى الله عليه  وآله ان يعلمها ـ إذا كان رسولا حقا ـ بأوقات الرخص والغلاء، والخصب والإجذاب، فكان رد النبي صلّى الله عليه  وآله على طلبهم من خلال قوله تعالى:
{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ الله وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}([5]). إلا ان ذلك لا ينفي ان يلطع الله سبحانه أنبياءه على بعض الجزئيات الغيبية، كبراهين تعضد صدق رسالاتهم كما في قوله تعالى:
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا Q إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا}([6]) فالرسول صلّى الله عليه  وآله قد كان يعرف بعض الجزئيات الغيبية بإيحاء من الله سبحانه مما يعني ان معرفته تلك مكتسبة، وقد ذكر الماوردي جانبا من المعرفة المكتسبة تلك([7])، التي يمكن من خلالها الدخول إلى موضوع الغيبيات في فكر علي عليه السلام.
لقد حاول بعض الدارسين لشخصية علي عليه السلام، تحليل بعض جوانبها النفسية لتعليل القضايا الغيبية التي صدرت عنه([8])، كما حاول فريق آخر منهم الغاء ذلك الجانب الغيبي فيما أثر عن علي عليه السلام من نصوص لاعتقادهم بأنه مدسوس عليه([9])، الا اننا نرجح صحة ذلك الجانب من الاقوال المنسوبة إليه، أو على الاقل الجزء الاكبر منها، ويؤيد ترجيحنا ذلك قرائن منها:

أولاً ـ تأليه علي (عليه السلام):
إذ تكاد كثير من كتب السير التي ترجمت لعلي عليه السلام تذكر انه قد احرق قوماً الهوه([10])، وقد بقيت عقيدة تأليهه في فرق بعد مماته ذكرها الشهرستاني([11])، وتقديس الفرد بجعله في مرتبة الإله لا يتولد عند الناس من فراغ، ولولا مشاهداتهم لصدق بعض نبوآته، وظهور بعض الخوارق في أفعاله وأقواله لما غلوا فيه، ولا نظن ان قوله «سيهلك في صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس في حالا النمط الاوسط فالزموه»([12]) الا وليد استنتاجاته مما يدور حول شخصه من حب بلغ التقديس وبغض بلغ حد الكراهية والحقد.

ثانياً: تكرار دفع تهمة الكذب عن نفسه:
إن تكرار دفع تهمة الكذب([13]) عن نفسه في مواضع عدة من النهج لم ترد عرضا ودونما أسباب، فلولا إحساسه بذلك الاتهام الموجه إلى شخصه، لما حاول تفنيد كل مقولة تمس بمصداقية أقواله، التي لم تصل عقول كثير منهم إلى مرتبة إدراك أبعادها في ظل فهمهم لظواهر القضايا، دون التعمق فيها بأفكارهم للاطلاع على ما يكتنف خلفياتها من أخطار مستقبلية تتهددهم، ويمكن ادراك ذلك من قوله موبخا من كذبه من أهل العراق «لقد بلغني أنكم تقولون: علي يكذب، قاتلكم الله تعالى فعلى من أكذب؟ أعلى الله؟ فأنا أول من آمن به أم على نبيه؟ فأنا أول من صدقه كلا والله ولكنها لهجة غبتم عنها، ولم تكونوا أهلها»([14]) فاللهجة التي غاب عنها أولئك، هي بعض قضايا الغيب التي كان يحدثهم بها وهي التي أدت بجزء منهم إلى تكذيبه لعدم استيعاب عقولهم لها)

ثالثاً ـ معنى الغيب في فكر علي )عليه السلام(:
عرض علي عليه السلام في أحد أحاديثه لأصحابه إلى ما سيحدث بالبصرة من فتن دموية جراء الاضطهاد والظلم الذي سيقع على الفقراء والمستضعفين من سكانها، كما تحدث عن فتن سيحدثها جنس من الاتراك في فترة من فترات الإسلام، فقال له رجل كلبي من أصحابه «لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك عليه السلام ، وقال للرجل يا اخا كلب، ليس هو بعلم غيب، وانما هو تعلم من ذي علم، انما علم الغيب، علم الساعة، وما عدده الله سبحانه بقوله {إِنَّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}  من ذكر أو انثى، وقبيح وجميل، وسخي وبخيل وشقي وسعيد... فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه، فعلمنيه، ودعالي بأن يعيه صدري، وتضطم عليه جوانحي»)[15]( فعلم الغيب كما يبدو من قول علي عليه السلام ، هو العلم بالكليات دون الاستعانة بمعلم، أي انه ذاتي ولا يجوز العلم الذاتي الا في الله سبحانه، لأن كل عالم غيره متعلم فعلي عليه السلام يقر بأن علمه مكتسب، والعلم المستفاد من الغير لا يجوز ان يسمى غيباً «وإن كان إطلاقا على أمر غيبي لا يتأهل للاطلاع عليه كل الناس»)[16]( وإقرار علي عليه السلام بصحة اكتسابه تؤيده نصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى:

{لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ})[17]( فقد قال جُل المفسرين، أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه  وآله «سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي، قال علي عليه السلام: فما نسيت شيئا بعد ذلك، وما كان لي أن أنسى»)[18](، كما ورد على لسان علي عليه السلام في نهج البلاغة قول رسول الله صلّى الله عليه  وآله له: «إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى إلا أنك لست بنبيّ»)[19]( فالذي نفهمه مما وورد بشأن الغيبيات في فكر علي عليه السلام ، أن اكتساب بعض الجزئيات الغيبية عن طريق التعلم من متلقي الوحي صلّى الله عليه  وآله ، لا يكسب المتعلم صفة عالم الغيب. فهو على هذا لم يقل بعلمه الغيب، إلا أنه حاول توظيف ما تلقاه عن الرسول صلّى الله عليه  وآله من علم، في قضية التوعية إلى ما سيؤول إليه مصير المجتمع فيما لو انحاز أبناؤه عن جادة الحق بظلم بعضهم بعضاً، وميلهم به عن أصحابه والمؤهلين له، ومنهم شخصه كوارث لعلم النبي صلّى الله عليه  وآله وحكمته، وقد ورد شيء كثير من ذلك في حق نفسه خاصة، وآل بيته على وجه العموم)[20](، ومن ذلك ما ورد بشأن المهدي المنتظر عليه السلام(([21]).

الهوامش:
([1]) البقرة/3.
([2]) تفسير المنار1/127.
([3]) النمل /65.
([4]) التوبة/ 101.
([5]) الاعراف/188 وراجع سبب نزول الآية عند: الطبري ـ مجمع البيان 9/78.
([6]) الجن/26،27.
([7]) راجع أعلام النبوة ص 106 وما بعدها.
([8]) راجع بشأن ذلك ما قاله في علي عليه السلام عبد الفتاح عبد المقصود ـ الإمام علي عليه السلام 1/94 وراجع ما قاله بشأن تحليل علم علي عليه السلام بالمغيبات ـ الخوئي ـ منهاج البراعة 3/ 140، ومغنية ـ في ظلال النهج1/ 109، ويؤيد ذلك ويعضده ما قاله ابن خلدون ـ في كرامات أهل البيت عليهم السلام في مقدمته ص 416.
([9]) راجع بشأن ذلك ـ العقاد ـ عبقرية الإمام علي عليه السلام ص 140، وأحمد الحوفي ـ بلاغة الإمام علي عليه السلام ص 98.
([10]) راجع ابن عساكر ـ ترجمة الإمام علي عليه السلام من تاريخ مدينة دمشق 3/179 بتحقيق المحمودي.
([11]) راجع ـ الملل والنحل 1/ 175 وما بعدها.
([12]) خطب ـ 127 ـ فقرة 1.
([13]) راجع على سبيل المثال ـ خطب ـ16ـ فقرة 1 وخطب ـ 37، وحكم ـ 155.
([14]) خطب ـ 70.
)[15]( خطب ـ 128 والآية من سورة لقمان /34.
)[16]( ميثم البحراني ـ شرح النهج 1/84.
)[17]( الحاقة /12.
)[18]( تفسير الرازي 30/107 وجاء مثله عند: القرطبي ـ الجامع لأحكام القرآن 18/264 وعند ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم 6/255.
)[19](     خطب - 240، فقرة 27.
)[20]( يمكن ملاحظة ذلك في ـ خطب ـ 2 فقرة 2، 86 فقرة، 3، 4، و92 فقرة ـ1.
([21]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 550-555.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.1063 Seconds