آمنة بنت الشريد ... زهرة من رياض الولاء

علي ومعاصروه

آمنة بنت الشريد ... زهرة من رياض الولاء

6K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 25-03-2019

آمنة بنت الشريد ... زهرة من رياض الولاء

 

الباحثة: خُطَى الخزاعي

 

       إنَّ كثيرًا من الشخصيات التي تُعَدُّ اليوم من القامات الشامخة التي يستشهد بولائها وحسن بلائها في كشف قبح الوجه الآخر للظالم، ما كان ليصلنا منها شيءٌ لولا أنَّها قد خاضت غمار المواجهة واصطدمت بالمباشرة مع الظالم المتجبر متعرضة لنقمته وبطشه، ولعلَّ موقفًا واحدًا في المواجهة يغني عن مواقف متكثرة، فيتكفل موفيًا بتعريف وترجمة شخصية ما، فالأمر منوط بالعمل المخلَص لله بعيدًا عن المآرب والغايات، فما كان لله ينمو، ويثمر، ويؤتي أُكلًا طيِّبًا مباركًا، وما كان لغيره لم يكن كذلك، ومن هذه الشخصيات السيدة آمنة بنت الشريد زوجة الصحابي الشهيد عمرو بن الحمق الخزاعي (رضوان الله تعالى عليه)، من حواريِّ أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) موثَّقًا ذلك عن أبي الحسن موسى بن جعفر(صلوات الله وسلامه عليهما) بقوله: ( إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ... أين حواري علي بن أبي طالب، وصي محمد بن عبد الله رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ فيقوم عمرو بن الحمق الخزاعي، ومحمد بن أبي بكر، وميثم بن يحيى التمار مولى بني أسد، وأويس القرني...)([1]) ذو الرتبة العالية في الولاء يكشف عنها قوله لأمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) وتعقيب الإمام على قوله :(والله ما جئتك لمال من الدنيا تعطينيها ولا لالتماس السلطان ترفع به ذكري إلا لأنك ابن عم رسول الله (صلوات الله عليه) وأولى الناس بالناس وزوج فاطمة سيدة نساء العالمين (عليها السلام) وأبو الذرية التي بقيت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأعظم سهمًا للإسلام من المهاجرين والأنصار، والله لو كلّفتني نقل الجبال الرواسي ونزح البحور الطوامي، أبدا حتى يأتي عليَّ يومي وفي يدي سيفي أهز به عدوك، وأقوي به وليك، ويعلو به الله كعبك، ويفلج به حجتك، ما ظننت أني أديت من حقك كل الحق الذي يجب لك عليَّ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): اللهم نوّر قلبه باليقين واهده إلى الصراط المستقيم، ليت في شيعتي ماْئة مثلك)([2])، فكانت آمنة ( رحمها الله) قرينة هذا البطل ورفيقة نضاله وعلى شاكلته في الولاء، وقد جاء في وصفها ( صالحةٌ مؤمنةٌ عارفةٌ فصيحةٌ)([3])، وأيضًا: (فصيحةٌ من أهل الكوفة)([4])، ووصفت مع مواليات أُخريات بأنَّهن(... ممّن أوتين جوامع الكلم، وجمعن أشتات الحكم)([5])، سجَّلت موقفًا مع معاوية بن أبي سفيان، فعرّفت بمنطقها عن نفسها، ووثّقت به انتهاك العدو وتماديه في القتل والتمثيل والترويع، والمواجهة ابتدأت عندما سعى معاوية في طلب زوجها عمرو بعد استشهاد أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) سياسةً منه في تصفية أهل الثقل من مواليه وشيعته، ولمَّا لم يحضَ به عمد إلى زوجته آمنة وأودعها السجن في دمشق لمدة سنتين نكايةً به، وبعد مدة ظفر به وقتله غادرًا وطاف برأسه، ثم لم يكتفِ بجريمته؛ بل أوغل في وحشيته وتسافله، فأمر بأن يُلقى رأس الشهيد في حجر زوجته وهي في سجنها بغية قهرها وترويعها،( فارتاعت له ساعة، ثم وضعت يدها على رأسها وقالت: واحزنا ! لصغره في دار هوان وضيق من ضيمة سلطان، فنفيتموه عني طويلا وأهديتموه إليَّ قتيلا، فأهلا وسهلا بمن كنت له غير قالية وأنا له اليوم غير ناسية، ارجع به أيُّها الرسول إلى معاوية، فقل له ولا تطوه دونه: أيتم الله ولدك، وأوحش منك أهلك، ولا غفر لك ذنبك،  فرجع الرسول إلى معاوية فأخبره بما قالت، فأرسل إليها فأتته، وعنده نفر فيهم أياس بن حسل أخو مالك بن حسل، وكان في شدقيه نتوء عن فيه لعظم كان في لسانه وثقل إذا تكلم، فقال لها معاوية: أأنت يا عدوة الله صاحبة الكلام الذي بلغني؟ قالت: نعم !غير نازعة عنه، ولا معتذرة منه، ولا منكرة له، فلعمري لقد اجتهدت في الدعاء إن نفع الاجتهاد، وأن الحق لمن وراء العباد، وما بلغت شيئا من جزائك، وإن الله بالنقمة من ورائك  فأعرض عنها معاوية، فقال أياس: أقتل هذه يا ...، فو الله ما كان زوجها أحق بالقتل منها! فالتفت إليه، فلما رأته ناتئ الشدقين ثقيل اللسان، قالت: تبا لك! ويلك! بين لحيتيك كجثمان الضفدع، ثم أنت تدعوه إلى قتلي كما قتل زوجي بالأمس، إن تريد إلا أن تكون جبّارًا في الأرض، وما تريد أن تكون من المصلحين، فضحك معاوية، ثم قال: لله درُّك! أخرجي ثم لا أسمع بك في شئ من الشام، قالت: وأبي لأخرجن! ثم لا تسمع لي في شئ من الشام، فما الشام لي بحبيب ولا أعرج فيها على حميم، وما هي لي بوطن ولا أحن فيها إلى سكن، ولقد عظم فيها ديني وما قرت فيها عيني، وما أنا فيها إليك بعائدة ولا حيث كنت بحامدة فأشار إليها ببنانه: اخرجي، فخرجت وهي تقول: واعجبي لمعاوية يكف عني لسانه ويشير إلى الخروج ببنانه، أما والله ليعارضنَّه عمرو بكلام مؤيد سديد أوجع من نوافذ الحديد أو ما أنا بابنة الشريد ! فخرجت...)([6])، بعد أن أمطرت العدو وحاشيته بوابلٍ من شواظ بيانها وضربات منطقها التي شابهت في الوقع حدَّ سيف صقيل، غير آبهة بما يمكن أن ستكون عليه النتائج على يد العدو المتيقن في حقه الانتهاك وخرق المعايير أيًا كانت، فقدّمها موقفها هذا للأجيال مثالًا يُقتدى به للمرأة الموالية الصابرة الشجاعة المتنمرة في ذات الله، بمنطق لاذع ومبدإ راسخ، معطية درسًا في النصرة والثبات على الموقف، فأسهمت (رحمها الله) منضمة إلى كل موالٍ وموالية قد اقتفوا أثر العترة الطاهرة ( سلام الله عليهم) وتمسكوا بنهجهم في تعبيد طريق الولاء للقادم من الأجيال والهامهم للمواصلة في رفد هذا النهج  بمواقف مماثلة وتضحيات مشابهة لديمومة بقائه وضمانة وصوله للآتي من بعدهم وهكذا.  فلها منا دعاءٌ وذكرٌ يفيضُ بالاعتزاز والاكرام، ومن الله جزاءٌ يليق بشأنه في الكرم والعطاء.

الهوامش:      

[1] الاختصاص، الشيخ المفيد (المتوفى :413ه): 61

[2] الاختصاص:14-15،  بحار الأنوار، العلامة المجلسي (المتوفى 1111ه): 34/276-277.

[3] مستدركات علم رجال الحديث، الشيخ علي النمازي الشاهرودي،( المتوفى :1405 ه) : 8/ 544.  

[4] الأعلام، خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس  الزركلي الدمشقي ( المتوفى : 1410هـ ): 1 /26.   

[5] المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها، عبد الله بن عفيفي الباجوري ( المتوفى : 1364 ه‍ ): 2/119.

[6] بلاغات النساء، ابن طيفور(المتوفى 380ه): 59-60

 

المقالة السابقة المقالة التالية

Execution Time: 0.2235 Seconds