الرضي والمرتضى كوكبان

الشريف الرضي

الرضي والمرتضى كوكبان

14K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 15-03-2016

الرضي والمرتضى كوكبان

الشيخ جعفر السبحاني

إن الرضي والمرتضى من دوح السيادة ثمرتان ، وفي فلك العلم قمران ، وأدب الرضي إذا قرن بعلم المرتضى ، كان كالفرند في متن الصارم المنتضى.

وقد وصف أبو العلاء المعري الشريفين في قصيدة يرثي بها والدهما بقوله : 

أبقيت فينا كوكبين سناهما * في الصبح والظلماء ليس بخاف 

إلى أن قال :

ساوى الرضي المرتضى وتقاسما * خطط العلى بتناصف وتصاف 

وروى أهل السير والتواريخ أن المفيد ، أبا عبد الله محمد بن النعمان نابغة العراق ، ومفخرة الآفاق ، رأى في منامه أن فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دخلت عليه وهو في مسجده في الكرخ ، ومعها ولداها : الحسن والحسين - عليهما السلام - صغيرين ، فسلمتهما إليه ، وقالت له : علمهما الفقه ، فانتبه متعجبا من ذلك ، فلما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التي رأى فيها الرؤيا ، دخلت إليه في المسجد فاطمة بنت الناصر ، وحولها جواريها وبين يديها ابناها : محمد الرضي ، وعلي المرتضى صغيرين ، فقام إليها وسلم عليها ، فقالت له : أيها الشيخ هذان ولداي قد أحضرتهما لتعلمهما الفقه ، فبكى أبو عبد الله ، وقص عليها المنام ، وتولى تعليمهما الفقه ، وأنعم الله عليهما ، وفتح لهما من أبواب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا ، وهو باق ما بقي الدهر.

هكذا بدأ العلمان حياتهما الفكرية والعلمية ، ونشئا وترعرعا في مدرسة أستاذ واحد ، غير أن كل واحد انطلق حسب ذوقه ومواهبه الطبيعية ، وفي مجاله الخاص ، فركز الرضي اهتمامه على العلوم الأدبية والشعر والحديث والتفسير ، وهو يتولى نقابة الطالبيين ، إلى غير ذلك من مهام الأمور .

بينما صب المرتضى جهوده على الفقه والكلام ثم التفسير ، ونبغ كل واحد منها في مجال خاص، مع اشتراكهما في سائر المجالات العلمية والفكرية .

ولأجل ذلك نجد أن الرضي يراجع أخاه المرتضى في المسائل الفقهية ويطلب منه حلها .

قال الشهيد الأول في ( الذكرى ) ، والشهيد الثاني في ( الروض ) في مسألة الجاهل بالقصر في السفر - حيث أن الإمامية تذهب إلى صحة صلاة الجاهل بالحكم إذا أتم مكان القصر - سأل الرضي أخاه المرتضى وقال : إن الإجماع واقع على أن من صلى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية ، والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها فلا تكون مجزية ، ( فكيف تكون صلاة الجاهل بوجوب القصر إذا أتم صحيحة ) فأجابه المرتضى بجواز تغير الحكم الشرعي بسبب الجهل ، وإن كان الجاهل غير معذور.

ما ينبئ عن أن المرتضى يرجع إلى أخيه الرضي في الفنون التي برع فيها أخوه ، روى السيد نعمة الله الجزائري قال : دخل أبو الحسن ، على السيد المرتضى - طاب ثراه - يوما ، وكان المرتضى قد نظم أبياتا من الشعر ، فوقف به بحر الشعر فقال : يا أبا الحسن خذ هذه الأبيات إلى أخي الرضي قل له يتمها وهي هذه :

سرى طيف سلمى طارقا فاستفزني * سميرا وصحبي في الفلاة رقود

فلما انتبهنا للخيال الذي سرى * إذ الأرض قفر والمزار بعيد

فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي * لعل خيالا طارقا سيعود

قال أبو الحسن : فأخذت الأبيات ، ومضيت إلى السيد الرضي ، فلما رآها قال : علي بالمحبرة فكتب :

فردت جوابا والدموع بوادر * وقد آن للشمل المشتت ورود

فهيهات عن ذكرى حبيب تعرضت * لنا دون لقياه مهامه بيد

فأتيت بها إلى المرتضى فلما قرأها ضرب بعمامته الأرض ، وقال : يعز علي أخي ، يقتله الفهم بعد أسبوع ، فما دار الأسبوع إلا وقد مضى الرضي إلى رحمة الله سبحانه.

ومما يكشف عن شدة التلاحم والارتباط والود بين هذين الأخوين العلمين ، أنه لما توفي السيد الرضي وحضر الوزير فخر الملك وجميع الأعيان والأشراف والقضاة جنازته والصلاة عليه ، مضى أخوه المرتضى عن جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر - عليه السلام - لأنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه ، وصلى عليه فخر الملك أبو غالب ، ومضى بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الشريف الكاظمي فألزمه بالعود إلى داره .

نرى أن المرتضى يصب عواطفه الرفيعة وحنانه في الأبيات التالية :

يا للرجال لفجعة جذمت يدي * ووددت لو ذهبت علي برأسي

ما زلت آبى وردها حتى أتت * فحسوتها في بعض ما أنا حاسي

ومطلتها زمنا فلما صممت * لم يثنها مطلي وطول مكاسي

لله عمرك من قصير طاهر * ولرب عمر طال بالأدناس

هذا بعض ما حفظ التاريخ من تفاني كل من الأخوين بالنسبة إلى الآخر .

غير أن هناك شرذمة من أهل السير والتراجم لم يتحملوا ما وجدوه بين هذين الأخوين من العطف والمودة ، والأدب والأخلاق والفضائل والمناقب ، فعادوا ينسبون إليهما ما لا تصح نسبته إلى من هو أدون منهما بدرجات ، وإليك بعض هذه التهم التي تكذبها سيرة العلمين وحياتهما المشرقة .

1 - المرتضى خائض في دماء

يحكى أنه اقتدى الرضي يوما بأخيه المرتضى في بعض صلاته ، فلما فرغ قال : أقتدي بك أبدا ، قال : وكيف ذلك ؟ ، قال : لأني وجدتك حائضا في صلاتك ، خائضا في دماء النساء ، فصدقه المرتضى وأنصف والتفت إلى أنه أرسل ذهنه في أثناء تلك الصلاة إلى التفكر في مسألة من مسائل الحيض وربما يحكى أن الرضي بمجرد أن انكشف له الحالة المزبورة انصرف من صلاته وأخذ في الويل والعويل ، وأظهر الفزع الطويل في تمام السبيل إلى أن بلغ المنزل بهذه الحالة ، فلما فرغ المرتضى أتى المنزل من فوره وشكا ما صنعه به إلى أمه ، فعاتبته على ذلك فاعتذر عندها بما ذكر ، وأنه كان يتفكر إذ ذاك في مسألة من الحيض ، سألتها عنه بعض النسوة في أثناء مجيئه إلى الصلاة.

تساؤلات حول القصة وهذه القصة تحيط بها إبهامات عديدة وتساؤلات عويصة نشير إليها :

أولا : هل الفكرة الشرعية الصحيحة إذا راودت ذهن الإنسان في أوقات الصلاة أو غيرها توجب تمثل الإنسان بنفس تلك الفكرة عند أرباب البصائر وذوي العيون البرزخية ، الذين يستطيعون مشاهدة ما وراء الحجب والستور ببصائرهم ؟

فلو غاص الإنسان في أحكام السرقة أو حد الزنا والقذف ، فهل يوجب ذلك أن يتمثل المفكر فيها عند من يعاين الأشياء بأبصار حديدة ، سارقا وزانيا وقاذفا ! ؟ لا أظن أن يتفوه بهذا أي حكيم نابه أو عارف بصير ، بل لازم تلك البصيرة أن يعاين صاحبها الأشياء على ما هي عليه فيرى مثلا الرضي صاحب تلك البصيرة أخاه الفقيه على الحالة التي هو عليها ، أي متفكرا ومتعمقا في مسألة فقهية منشغلا بها لا خائضا في الدماء .

ثانيا : إن القصة تكذب نفسها ، فإن لازم رجوع النساء إلى المرتضى في المسائل المختصة بالنساء ، هو كون المسؤول من ذوي الشخصيات الضاربة في الأربعين عاما أو ما يقاربها ، ولازم إرجاع الشكاية إلى الأم كون المصلي والمقتدي في سني الصبا ، ومن المعلوم أن الأخوين كانا متقاربي السن ، ولا يكبر المرتضى أخاه الرضي إلا بأربعة أعوام .

ثالثا : إن القصة - على بعض الروايات - تصرح بانصراف الرضي عن الصلاة بقطعها وإبطالها به ، وهو أمر محرم ، ولا يسوغ لمثل الرضي ارتكابه .

2 - المرتضى شحيح والرضي سخي !

إن هذه التهمة ليست التهمة الوحيدة التي ألصقت بالشريف المرتضى ، بل نسجت الألسنة الحاقدة فرية أخرى أرادوا بها الانتقاص من ذينك العلمين الجليلين ، وإليك واحدة أخرى ، من هذه التهم :

قال صاحب كتاب \ عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب \ : إن المرتضى كان يبخل ، ولما مات خلف مالا كثيرا وخزانة اشتملت على ثمانين ألف مجلد ، ولم أسمع مثل ذلك ، وقد أناف القاضي عبد الرحمن الشيباني على جميع من جمع كتبا ، فاشتملت خزانته على مائة ألف وأربعين ألفا ، وكان المستنصر أودع خزانته في المستنصرية ثمانين ألفا أيضا.

ثم إن القصاصين لم يكتفوا بهذه التهمة ، وذكروا لها شاهدا ، ونقلوا عن أبي حامد أحمد بن محمد الأسفرائيني الفقيه الشافعي قال : كنت يوما عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة ، فدخل عليه الرضي أبو الحسن ، وأجلسه ورفع من منزلته وخلى ما بيده من الرقاع والقصص ، وأقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف ، ثم دخل عليه المرتضى أبو القاسم - رحمه الله - فلم يعظمه ذلك التعظيم ، ولا أكرمه ذلك الاكرام ، وتشاغل عنه برقاع يقرؤها ، وتوقيعات يوقع بها ، فجلس قليلا وسأله أمرا فقضاه ثم انصرف .

قال أبو حامد : فتقدمت إليه وقلت له : أصلح الله الوزير ، هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب الفنون ، وهو الأمثل والأفضل منهما ، وإنما أبو الحسن شاعر ، قال : فقال لي : إذا انصرف الناس ، وخلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة .

قال : وكنت مجمعا على الانصراف ، فجاءني أمر لم يكن في الحساب ، فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن تقوض الناس واحدا فواحدا ، فلما لم يبق إلا غلمانه وحجابه ، دعا بالطعام ، فلما أكلنا وغسل يديه وانصرف عنه أكثر غلمانه ، ولم يبق عنده غيري قال لخادم : هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام ، وأمرتك أن تجعلهما في السفط الفلاني ، فأحضرهما فقال : هذا كتاب الرضي ، اتصل بي أنه قد ولد له ولد ، فأنفذت إليه ألف دينار ، وقلت له : هذه للقابلة ، فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء إلى أخلائهم وذوي مودتهم مثل هذا في مثل هذه الحال ، فردها وكتب إلي هذا الكتاب ، فاقرأه ، قال : فقرأته وهو اعتذار عن الرد ، وفي جملته : إننا أهل بيت لا يطلع على أحوالنا قابلة غريبة ، وإنما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا ، ولسن ممن يأخذ أجرة ، ولا يقبلن صلة ، قال : فهذا هذا .

وأما المرتضى فإننا كنا قد وزعنا وقسطنا على الأملاك ببادور يا تقسيطا نصرفه في حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى ، فأصاب ملكا للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهما ، ثمنها دينار واحد ، قد كتب إلي منذ أيام في هذا المعنى هذا الكتاب فاقرأه ، فقرأته وهو أكثر من مائة سطر ، يتضمن من الخضوع والخشوع والاستمالة والهز والطلب والسؤال في إسقاط هذه الدراهم المذكورة عن أملاكه المشار إليها ما يطول شرحه .

قال فخر الملك : فأيهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل ؟ هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد ، ونفسه هذه النفس أم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة ، ونفسه تلك النفس ، فقلت : وفق الله تعالى سيدنا الوزير فما زال موفقا ، والله ما وضع سيدنا الوزير الأمر إلا في موضعه ، ولا أحله إلا في محله ، وقمت فانصرفت.

قرائن تكذب هذه القصة إن هناك قرائن وشواهد قرية على أن القصة حديث كاذب وتهمة مختلقة ، وإليك تلك القرائن المفيدة للعلم بخلاف هذه الحكاية :

1 - إن السيد المرتضى - وهو ذلك الرجل الصدوق - ينص بنفسه على أنه لم يكن يرى لثروته الطائلة قيمة تجاه مكارمه وكراماته وكان يقول : 

وما حزني الإملاق والثروة التي * يذل بها أهل اليسار ضلال

أليس يبقى المال إلا ضنانة * وأفقر أقواما ندى ونوال

إذا لم أنل بالمال حاجة معسر * حصور عن الشكوى فمالي مال

أفترى أن صاحب هذه النفسية القوية يكتب لإعفاء عشرين درهما ، مائة سطر تتضمن الخضوع والخشوع ! ؟

2 - إن الشريف المرتضى تقلد بعد أخيه الرضي نقابة الشرفاء شرقا وغربا ، وإمارة الحاج والحرمين ، والنظر في المظالم ، وقضاء القضاة ثلاثين سنة ، وذلك من عام 406 ( وهو العام الذي توفي فيه أخوه الرضي ) إلى عام 436 الذي توفي فيه الشريف المرتضى نفسه . 

أفهل يمكن أن يقوم بأعباء مثل هذه المسؤولية الاجتماعية من يبخل بدينار واحد يصرفه فخر الملك في حفر نهر ، تعود فائدته إلى الجميع ، ويكتب في إسقاطه أكثر من مائة سطر .

هذا والحجيج بين شاكر لكلاءته ، وذاكر لمقدرته ، ومطر لأخلاقه ، ومتبرك بفضائله ، ومثن على أياديه ، وهذا يفيد أن الشريف المرتضى كان كأخيه الرضي سخيا معطيا ولم يكن يرى للمال قيمة .

3 - إن ابن خلكان بعد ما عرفه بقوله : كان إماما في علم الكلام والأدب والشعر ، أتى بقصة حكاها الخطيب التبريزي ، وهي بنفسها أقوى شاهد على أن السيد كان ذا سماحة كبيرة .

قال الخطيب : إن أبا الحسن علي بن أحمد علي بن سلك الفالي الأديب كان له نسخة لكاتب الجمهرة لابن دريد في غاية الجودة ، فدعته الحاجة إلى بيعها فباعها ، فاشتراها الشريف المرتضى بستين دينارا ، فتصفحها فوجد فيها أبياتا بخط بائعها ، والأبيات قوله :

أنست بها عشرين حولا وبعتها * فقد طال وجدي بعدها وحنيني

وما كان ظني أنني سأبيعها * ولو خلدتني في السجون ديوني

ولكن لضعف وافتقار وصبية * صغار ، عليهم تستهل شؤوني

فقلت ولم أملك سوابق عبرتي * مقالة مكوي الفؤاد حزين

وقد تخرج الحاجات يا أم مالك * كرائم من رب بهن ضنين

وقال الخطيب : فأرجع السيد النسخة إليه ، وترك له الدنانير.

أفهل في وسع البخيل الشحيح المقدم على التنقيص من كرامته لأجل إسقاط دينار ضرب عليه لحضرته ، أن تسخو نفسه وتجود بمثل هذه الدنانير ! ؟

4 - روى أصحاب التراجم ، إن السيد المرتضى كان يجري الرزق على جميع تلامذته ، حتى أنه قرر للشيخ الطوسي كل شهر - أيام قراءته عليه - اثني عشر دينارا ، وعلى ابن البراج كل شهر ثمانية دنانير ، ليتفرغوا بكل جهدهم إلى الدراسة ، من غير تفكر في أزمات المعيشة.

أفي وسع القارئ أن يتهم من يدر من ماله الطاهر ، أو مما يصل إليه من الناس من الحقوق الشرعية ، على تلامذته الكثيرين البالغ عددهم المئات ، هذه الرواتب الكبيرة ، أن يشح ويبخل بدينار ، ويكتب في إسقاطه مائة سطر ؟ !

5 - إن الشريف الرضي كان قد وقف قرية على كاغذ الفقهاء ، حتى لا يواجه الفقهاء أية أزمات في لوازم الكتابة والتحرير .

6 - وقد روي أن السيد المرتضى كان يملك قرى كثيرة واقعة بين بغداد وكربلاء ، وكانت معمورة في الغاية ، وقد نقل في وصف عمارتها ، إنه كان بين بغداد وكربلاء نهر كبير ، وعلى حافتي النهر كانت القرى إلى الفرات ، وكان يعمل في ذلك السفائن ، فإذا كان في موسم الثمار كانت السفائن المارة في ذلك النهر تمتلئ مما سقط من تلك الأشجار الواقعة على حافتي النهر ، وكان الناس يأكلون منها من دون مانع.

7 - قد نقل أصحاب السيران الناس أصابهم في بعض السنين قحط شديد ، فاحتال رجل يهودي على تحصيل قوته ، فحضر يوما مجلس الشريف المرتضى ، وسأله أن يأذن له في أن يقرأ عليه شيئا من علم النجوم ، وأمر له بجراية تجري عليه كل يوم ، فقرأ عليه برهة ثم أسلم على يديه.

8 - إن ياقوت الحموي نص في معجم الأدباء ( 3 : 154 ) على أن المرتضى كان يدخل عليه من أملاكه كل سنة أربعة وعشرون ألف دينار .

9 - إن الشريف المرتضى هو أول من جعل داره دار العلم ، وقدرها للمناظرة ويقال : إنه أمر ولم يبلغ العشرين ، وكان قد حصل على رئاسة الدنيا بالعلم والعمل الكثير ، والمواظبة على تلاوة القرآن وقيام الليل ، وإفادة العلم ، وكان لا يؤثر على العلم شيئا مع البلاغة وفصاحة اللهجة .

وحكي عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه قال : كان الشريف المرتضى ثابت الجأش ، ينطق بلسان المعرفة ويردد الكلمة المسددة ، فتمرق مروق السهم من الرمية ما أصاب أصمى وما أخطأ أشوى.

والقارئ الكريم إذا لاحظ ما ذكرناه في هذه البنود الخمسة الأخيرة ، يقف على تفاهة ما نسب إلى هذا العلم من تلك القصة المنحوتة المختلقة .

10 - إن القصة تتضمن أن فخر الملك لم يعظم المرتضى بما يليق بشأنه ، وتشاغل عنه برقاع يقرؤها ، وتوقيعات يوقع بها ، ولكن الفخر هذا قد عظم المرتضى بأفضل ما يمكن يوم مات الشريف الرضي ، حيث أن المرتضى لم يشهد جنازة أخيه ، ولم يستطع أن ينظر إلى تابوته ، وذهب إلى مشهد موسى بن جعفر - عليه السلام - ، ومضى فخر الملك بنفسه آخر النهار إلى المشهد الكاظمي ، واستدعى من السيد العود إلى داره ببغداد .

فبأي هذين الموقفين نؤمن ؟

هذه القرائن والشواهد تشهد بوضوح على بطلان هذه القصة الخرافية ، وتدل على أن ناسجها نسجها في غير موضعها .

11 - قد اشتهر على ألسن العلماء أنه لما اتفقت فقهاء العامة على حصر المذاهب الفقهية الإسلامية التي تعددت وتشعبت من زمان الصحابة والتابعين ، ومن تبعهم إلى عصر السيد المرتضى في مذاهب معينة ، التقى السيد المرتضى بالخليفة ، وتعهد له أن يأخذ من الشيعة مائة ألف دينار ، حتى ترفع التقية والمؤاخذة على الانتساب إليهم ، فتقبل الخليفة ، ثم إنه بذل لذلك من عين ماله ثمانين ألفا ، وطلب من الشيعة بقية المال ، ومن الأسف أنهم لم يقدروا عليه.

وهذه القصة - سواء صحت أم لا - تكشف عن أن السيد كان بمثابة من السخاء ، بحيث أمكن نسبة هذه القصة إليه .

12 - هذا هو الدفاع الصحيح عن كرامة السيد الجليل ، ودحض القصة بهذه القرائن المفيدة للعلم وبطلانها ، والعجب أن صاحب الروضات - بعد ما نقل تلك القصة المختلفة - انبرى للدفاع عن السيد بما نقله عن السيد الجزائري بقوله : كأن الوزير فخر الملك لم يحقق معنى علو الهمة ، فلذا عاب الأمر على الشريف المرتضى ، وإنما كان عليه غضاضة لو كان سائلا لها من أموال الوزير ، وما فعله الشريف عند التحقيق من جملة علو الهمة ، وذلك أنه دفع عن ملكه بدعة لو لم يتداركها بقيت على ملكه ، وربما وضعت من قدره عند أهل الأملاك وغيرهم ، وكما أنه ورد في الحديث ، المؤمن ينبغي له الحرص على حيازة أمواله الحلال كي ينفقه في سبيل الطاعات ، كما كانت عادة جده أبي طالب بن عبد المطلب ، فإنه كان يباشر جبر ما انكسر من مواشيه وأنعامه ، فإذا جاء الوافد إليه وهبها مع رعاتها له.

غير أنه كان من الواجب على السيد الجزائري وصاحب الروضات أن يبطلا هذه القصة من أساسها للقرائن والشواهد التي ألمحنا إلى بعضها ، كما كان عليهما أن يتمسكا في المقام بما روي عن علي - عليه السلام - من أن أفضل المال ما وقي به العرض ، وقضيت به الحقوق.

الشريف الرضي

قد عرفت ما في كناية القصاصين من التهم الباطلة الموجهة إلى الشريف المرتضى .

فهلم الآن إلى ما اختلقه الآخرون ممن يحملون الحقد والبغض لأبناء البيت العلوي حول الشريف الرضي وإن نقله أصحاب التراجم من غير دقة وتحقيق .

قالوا : كان الرضي ينسب إلى الافراط في عقاب الجاني ، وله في ذلك حكايات ، منها ، إن امرأة علوية شكت إليه زوجها وإنه لا يقوم بمؤونتها ، وشهد لها من حضر بالصدق في ما ذكرت ، فاستحضره الشريف وأمر به فبطح وأمر بضربه فضرب ، والمرأة تنظر أن يكف ، والآمر يزيد حتى جاوز ضربه مائة خشبة ، فصاحت المرأة : \ وايتم أولادي \ كيف يكون حالنا إذا مات هذا ؟ فكلمها الشريف بكلام فظ ، وقال : ظننت أنك تشكينه إلى المعلم ؟.

لا شك أنه كان من وظيفة الشريف الرضي نصح الزوج ، ودعوته إلى الرفق بالمرأة والقيام بلوازم حياتها ، لا الأمر ببطحه وضربه ضربا كاد يقضي على حياة الزوج .

وعلى فرض أن الشريف كان آيسا عن تأثير النصح في ذلك الرجل ، كان يجب عليه القيام بما جاء به الشرع في مورد التعزيرات ، إذ لا شك أن ذلك المورد ليس من موارد الحدود ، بل من موارد التعزيرات ، فإن الحدود ما جاء به الشرع بمقرر وحد خاص ، وأسبابه كما في \ الشرائع \ على ما قرر في الفقه ستة : الزنا ، وما يتبعه ، والقذف ، وشرب الخمر ، والسرقة ، وقطع الطريق .

والمورد ليس من تلك الموارد ففيه التعزير ، وقد قرر في محله أنه يجب أن يكون التعزيز أقل من الحد .

روى حماد بن عثمان ، عن الصادق - عليه السلام - قال ، قلت له : كم التعزير ؟

فقال : دون الحد ، قال ، قلت : دون ثمانين ؟ قال : لا ، ولكن دون أربعين فإنها حد المملوك ، قلت : وكم ذاك ؟ قال : على قدر ما يراه الوالي من ذنب الرجل وقوة بدنه.

وبما أن حد القاذف في الحر هو ثمانون جلدة ، فلو قلنا بأن حد المملوك فيه نصف ما على الحر ، يصير الحد المقرر هو أربعون جلدة ، قال تعالى : \ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب \، فيجب أن يكون التعزيز على هذا دون الأربعين .

وفي خبر القاسم بن سليمان : سئل الصادق ( ع ) عن العبد إذا افترى على الحر ، كم يجلد ؟ قال : أربعين.

ولو قلنا بأنه لا يشترط في الثمانين الحرية وإن حد القاذف في الحر والعبد سواء – كما هو المشهور - وإن الفاحشة ( في الآية ) التي تصرح باختلاف حد الحر مع العبد ظاهرة في الزنا فقط ، وحدها - حسب تصريح الذكر الحكيم - هو مائة جلدة ، يكون أقل الحد هو خمسون.

وإن قلنا : إن قوله : \ دون الحد \ منصرف عن حدود العبد والأمة ، لأن الأحكام المتعلقة بهما في الإسلام ، أحكام موقتة ثابتة ما دامت الرقية موجودة ، فإذا ارتفع الموضوع ولم يوجد في أديم الأرض أية رقية ، ترتفع أحكامها بارتفاع موضوعها ، والناظر في التشريع الاسلامي يقف على أن الشارع اهتم بتحرير العبيد والإماء بطرق كثيرة كادت تقضي على حديث الرقية ، وإن الحكومات القائمة باسم الإسلام ما قامت بوظيفتها في ذاك المجال .

فلو قلنا بذلك الانصراف ، وقلنا بأن ما ورد في حد القيادة من أنه يضرب ثلاثة أرباع الزاني خمسة وسبعين سوطا، حد لا تعزير ولا توضيح لأحد مصاديقه يكون \ أقل الحد \ هو أربعة وسبعون سوطا فما دونه ، وعلى كل تقدير ليس في الفقه الإمامي تعزير يتجاوز عن المائة ، وكان الرضي يعمل بالفقه الإمامي ويعتنقه ، وليس ممن يخفى عليه ذاك الحكم الذي كان يمارسه طيلة نقابته للطالبين . وعلى كل هذه التقادير ، كيف أمر الشريف بجلد ذلك الرجل حتى جاوز مائة خشبة ؟ مع أنه - رحمه الله – ذلك الورع التقي ، الذي اتفق الجميع على طهارته ، ونزاهته وتقواه ؟

وما نرى ذلك إلا فرية أراد الجاعل الحط بها من مكانة السيد الشريف قدس الله روحه .

وقد روي عن أبي جعفر - عليه السلام - إن أمير المؤمنين - عليه السلام - أمر قنبرا أن يضرب رجلا حدا ، فغلط قنبر ، فزاده ثلاثة أسواط ، فأقاده علي عليه السلام من قنبر بثلاثة أسواط.

إن الشريف الرضي هو الذي يعرفه ابن الجوزي في المنتظم : كان الرضي نقيب الطالبيين ببغداد ، حفظ القرآن في مدة يسيرة ، بعد أن جاوز ثلاثين سنة ، وعرف من الفقه والفرائض طرفا قويا ، وكان عالما فاضلا وشاعرا مترسلا وعفيفا عالي الهمة ، متدينا اشترى في بعض الأيام جزازا من امرأة ، بخمسة دراهم فوجد جزءا بخط أبي علي بن مقلة ، فقال للدلال : إحضر المرأة فأحضرها ، فقال : قد وجدت في الجزاز جزءا بخط ابن مقلة ، فإن أردت الجزء فخذيه ، وإن اخترت ثمنه فهذه خمسة دراهم ، فأخذتها ، ودعت له وانصرفت.

فمن كان هذا مبلغ تقواه وورعه ، لا يقدم على معاقبة الزوج أمام زوجته بتلك المعاقبة الخشنة الخارجة عن حدود الشرع .

هذا ابن أبي الحديد يعرفه في كتابه بقوله : كان عفيفا شريف النفس ، عالي الهمة ملتزما بالدين ، وقوانينه ، ولم يقبل من أحد صلة ولا جائزة.

وهذا الرفاعي يعرفه في صحاح الأخبار بقوله : كان أشعر قريش . وذلك لأن الشاعر المجيد من قريش ليس بمكثر ، والمكثر ليس بمجيد ، والرضي جمع بين فضلي الاكثار والإجادة، وكان صاحب ورع وعفة ، وعدل في الأقضية ، وهيبة في النفوس.

فمن كان عفيفا شريف النفس ملتزما بالدين وقوانينه ، وكان صاحب ورع وعفه ، وعدل في الأقضية ، أترى يتجاوز عن حدود الشريعة ويرتكب ما لا يرتكبه من له أدنى علم وورع ؟ 

ما هكذا تورد يا سعد الإبل ؟

لقد تولى الشريف نقابة الطالبيين ، وإمارة الحج ، والنظر في المظالم سنة 380 وهو ابن واحد وعشرين سنة على عهد الطائع ، وصدرت الأوامر بذلك من بهاء الدولة وهو بالبصرة عام 397 ، ثم عهد إليه في 16 محرم عام 403 بولاية أمور الطالبيين في جميع البلاد فدعي نقيب النقباء ، وتلك المرتبة لم يبلغها أحد من أهل البيت إلا الإمام علي بن موسى الرضا - سلام الله عليه - الذي كانت له ولاية عهد المأمون ، وأتيحت للشريف الخلافة على الحرمين على عهد القادر.

والنقابة موضوعة لصيانة ذوي الأنساب الشريفة عن ولاية من لا يكافؤهم في النسب ، ولا يساويهم في الشرف ، ليكون عليهم أحبى ، وأمره فيهم أمضى ، وهي على ضربين : خاصة وعامة ، أما الخاصة فهي أن يقتصر بنظره على مجرد النقابة من غير تجاوز لها إلى حكم وإقامة حد ، فلا يكون العلم معتبرا في شروطها ، ويلزمه في النقابة على أهله من حقوق النظر إثنا عشر حقا ، وقد ذكرها الماوردي في الأحكام السلطانية .

وأما النقابة العامة ، فعمومها أن يرد إلى النقيب في النقابة عليهم مع ما قدمناه من حقوق النظر ، خمسة أشياء :

1 - الحكم بينهم في ما تنازعوا فيه .

2 - الولاية على أيتامهم في ما ملكوه .

3 - إقامة الحدود عليهم في ما ارتكبوه .

4 - تزويج الأيامى اللاتي لا يتعين أولياؤهن أو قد تعينوا فعضلوهن .

5 - إيقاع الحجر على من عته منهم ، أو سفه وفكه إذا أفاق ورشد .

فيصير بهذه الخمسة عام النقابة ، فيعتبر في صحة نقابته وعد ولايته أن يكون عالما من أهل الاجتهاد ليصح حكمه ، وينفذ قضاؤه.

فمن تصدى لهذه المناصب الخطيرة أعواما وسنين عديدة مضافا إلى ولاية المظالم والولاية على الحج ، والكل يتطلب خصوصيات وصفات نفسانية عالية ، وسجايا أخلاقية رفيعة جدا ، حتى أنه يجب أن يكون ظاهر العفة ، قليل الطمع ، كثير الورع ، لا يعقل أن يقوم بما جاء ذكره في القصة السابقة التي لا توجد إلا في علبة القصاصين وجعبة الوضاعين .

كل ما مر عليك من الأكاذيب والتهم كان يختص إما بالشريف الرضي أو أخيه المرتضى ، وكان الهدف من وراء وضع هذه التهم تكبير هذا بتصغير ذاك أو بالعكس ، هذا يرشد إلى أن كليهما كانا موضع حقد البعض وبغضهم وحسدهم ، لا أحدهما خاصة .

ويؤيد ذلك ما اتهما به على وجه الاشتراك ، وأول ما رميا به ما ذكره ابن خلكان في تاريخه إذ قال : اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام علي بن أبي طالب ، هل هو جمعه ، أو جمع أخيه الرضي ، وقد قيل إنه ليس من كلام \ علي \ إنما الذي جمعه ونسبه إليه ، هو الذي وضعه.

وتبعه اليافعي - من دون تحقيق - وردد نفس ما قاله ابن خلكان في تاريخه.

فما تورط فيه هذان الكاتبان من نسبة الكتاب إلى علم الهدى واتهامه بوضعه أو عزو ذلك إلى سيدنا الشريف الرضي ، مما لا يقام له في سوق الحقائق وزن ، وليس له مناخ إلا حيث تربض فيه العصبية العمياء وهو يكشف عن جهل أولئك .

وبما أنه قد قام عدة من المحققين بنقد هذه النسبة بوضع تآليف قيمة حول : ما هو نهج البلاغة ؟ وذكر مصادره المؤلفة قبل أن يولد الرضي أو الشريف المرتضى ، فنحن نضرب عن ذلك صفحا ونمر عليه كراما .

وفي كتاب مصادر نهج البلاغة للعلامة الخطيب السيد عبد الزهراء الحسني ، وما كتبه الأستاذ عبد الله نعمة ، وما أفرده العلامة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في ذلك المضمار ، وطبع مع كتابه مستدرك نهج البلاغة غنى وكفاية في دحض الشبهة ، وإبطال الفرية ، والله الهادي .

 

المقالة السابقة المقالة التالية

Execution Time: 0.2783 Seconds